السلطان الأحمر الجديد

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم تكن ليلة الأربعاء الماضي كسائر الليالي التي تعيشها أرمينيا منذ عام 1915. أحفاد الأرمن يستعيدون حقوقهم مهما طال الزمن.

124 عاماً مضت، تغير خلاها العالم سياسياً وجغرافياً، سقطت أشياء كثيرة وتغيرت مفاهيم عدة، لكن إيمان الأرمن بقضيتهم وحد الشعوب حولهم. تاريخ الإنسانية لن يرحم وريث المذابح.

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان استيقظ الأربعاء الماضي على مديونية تاريخية لابد من سدادها، الدماء أمانة.

مجلس النواب الأمريكي يعترف رسمياً بـ «الإبادة الجماعية للأرمن»، بأغلبية 405 أصوات مقابل 11 صوتاً، حدث يستحق التوقف، لم يتوقع أردوغان هذه الضربة.

غروره وصلفه لم يدفعه لتعلم الدرس، سار على منهج الإمبراطورية العثمانية في الإبادة، وحاول أن يكون مخلصاً لأجداده في مواصلة المجازر شمال شرق سوريا.

عاش أوهام الخلافة والتوسع واستعد لكتابة اسمه «السلطان الأحمر الجديد»، ولم يدرك أن الحسابات اختلفت، وأن روسيا التي هزمت أجداده جاهزة لتكرار النصر، وأن بريطانيا لا مانع لديها من إعادة توظيف تركيا لمصلحتها بقدر ما تستطيع.

الليلة ربما تشبه البارحة في العلوم السياسية، والزمن أكد أنه كفيل باستعادة حقوق الأرمن، فلا يمكن أن يتحقق السلام من دون عدالة. ظن أردوغان أنه بإبادة أكراد سوريا سيصعد إلى الأمام، وأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أفسح له المجال، ولكن سرعان ما اكتشف أنه يصعد نحو الهاوية، وأن جرائم الوريث في الحاضر لابد أن تتجمع في ملف واحد مع جرائم الأجداد أمام محاكم العدل الدولية لاستعادة الحقوق.

الأجواء الدموية نفسها يحاول أردوغان استلهامها من الماضي. ذاكرة الأرمن لن تتسامح. في عقول أطفالهم تقرأ صفحات الدم وترى ملامح الآباء. لو عدنا بالذاكرة إلى تلك المذابح نجد أنه عقب اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، حاولت تركيا إيجاد فكرة لجمع ما تبقى من الدولة، وتم اقتراح عمل دولة تركية جديدة والتخلص من كل الملل الأخرى وتهجيرها. بدأ العثمانيون تنفيذ الفكرة مراهنين على انشغال العالم كله بهذه الحرب، وتم التركيز على تنفيذ مخطط تهجير الأرمن قسراً، وأطلقت السلطات كل المسجونين الخطرين، وشكلت منهم ميليشيات لمرافقة الأرمن المهجرين إلى حلب في سوريا وفي هذه الأثناء تم تنفيذ أفظع الجرائم الإنسانية.

إذ إنه حسب التاريخ الموثق لهذه المذبحة فقد كانت الميليشيات العثمانية تتلذذ ببقر بطون الحوامل من النساء والرهان على نوع الأجنة في بطونهم، وقتل من يتوقف منهم عن السير طلباً للراحة. ولا يزال كتاب «المذابح في أرمينيا»، الذي صدر عام 1917 للمحامي السوري فايز الغصين بمثابة شاهد عيان على التوحش العثماني أثناء ممارسة المذابح.

اللافت هنا أن ثمة خيطاً رفيعاً يربط بين المذابح الأردوغانية والمذابح الحميدية نسبة إلى للسلطان عبد الحميد عبر مائة وأربعة أعوام، وهذا الخيط هو سوريا، فالسلطان الأحمر مارس العنف والقتل ضد الأرمن في حلب، والآن يمارس أردوغان الفعل نفسه ضد الأكراد بشمال شرق سوريا.

وسط المتغيرات الجديدة في ملف المذابح الأرمنية من قبل مجلس النواب الأمريكي فإن أردوغان بصفته «الوريث» صار مسؤولاً عن إعادة الحقوق لأصحابها. لن تصمد مناوراته أمام الاتفاق الديمقراطي الجمهوري.

العقوبات ستطارده لا محالة، فالاعتراف بإبادة الأرمن يعد تحدياً خطيراً أمام تركيا التي تواصل إنكارها الجريمة، فضلاً عن أن القرار الأمريكي من شأنه إرساء مبدأ بأن الجرائم ضد الإنسانية لا تسقط طالما هناك الدول المتحضرة التي تحرص على ترسيخ قيم حقوق الإنسان، وتسعى إلى تحقيق العدالة سيما أن الظلم التاريخي لا يزال يطارد أجيالاً متعاقبة من أحفاد ضحايا جرائم الإمبراطورية الحمراء، كما أن هذا القرار سيدفع دولاً كثيرة نحو الاعتراف بإبادة الأرمن وسوف يكتب التاريخ صفحات بيضاء بتوقيع الأرمن، وأيضاً سوف تنهار الدول التي بنيت على أنقاض الإنسانية.

* رئيس تحرير مجلة الأهرام العربي

Email