التواصل الاجتماعي والاستخدام المسؤول

ت + ت - الحجم الطبيعي

على مدار ما يزيد على عقدين وتحديداً منذ بزوغ شمس الشبكة العنكبوتية، وعلى مدار ما يقرب من عقد من تصاعد هيمنة وسيطرة منصات التواصل الاجتماعي، لم تبدُ الحاجة إلى التصحيح الذاتي ملحة كما هي عليه الآن. طبيعة الإنترنت وماهية منصات التواصل الاجتماعي وإتاحة ما سبق في أيادي مليارات البشر تحتم على عقلاء الكوكب التفكير في قنوات للتصحيح الذاتي وليس المنع الفوقي أو الحجب الرسمي. طبيعة خيوط العنكبوت وما تحويه من منصات ووسائل التواصل الاجتماعي تقف على طرف نقيض من مفهوم الحجب والمنع وبسط أذرع الرقابة. أحجب هذا الموقع يظهر لك بدلاً من الموقع المحجوب عشرة، وامنع الدخول من الباب تجد ألف يد مخترقة من «تحت عقب الباب».

وكم كانت الأعوام الأربعة المنصرمة مؤثرة ونافذة في مساعدة سكان الكوكب على فهم طبيعة الإنترنت من جهة وطبيعة السياسات المتحكمة في العالم من جهة أخرى. فكم من دولة عانت تحت وطأة هوجة مواقع التواصل الاجتماعي التي بدت في بشائرها الأولية أدوات لدمقرطة المعلومات وإتاحة التعبير ثم انقلبت وبالاً. لكن القائمين على أمر الجانب الآخر من الكوكب اعتبروا هذه المعاناة محاولة لعرقلة الديمقراطية.

وبين ليلة وضحاها، وداعش وتمدده عبر الحدود، والانتخابات الرئاسية الأمريكية وما شابهها من التواءات وتحويل دفة تصويت عنكبوتية، استيقظ العالم على صحوة غربية لمغبة سوء استخدام مواقع التواصل الاجتماعي. استيقظ العالم ذات صباح ليجد أن المسألة لم تعد حريات مطلقة وإبداعات دون قيود. وعرف سكان الكوكب أن الدول الغربية حين تذوقت «الطبخة» ونالها جانب من فوضى الأخبار الكاذبة والحسابات الوهمية والتجنيد في جماعات إرهابية ، تخلت عن شعار «الحريات المطلقة» دون أن تفكر مرتين. وصرنا نسمع عبارات مثل «الحرية على الإنترنت لكن دون تجاوز» و«حماية استقرار الدول وأمنها ممن يسيئون استخدام الإنترنت».

وشاهد العالم الرئيس الأمريكي السابق أوباما في أواخر عهده يتحدث عن بعض من مخاطر الانترنت، وكيف أن البعض بات يعيش واقعًا افتراضيًا لا علاقة له بالواقع، وكيف أن البعض صار حبيس المعلومات والرؤى التي تتطابق وتوجهاته المسبقة دون غيرها. وصفق العالم لما ذكره أوباما عن «الاستخدام غير المسؤول لمواقع التواصل الاجتماعي»، وأن «ما يهم هو ألّا تفضي هذه الفضاءات الافتراضية إلى تفتيت وتجزيء المجتمعات». الطريف أنه العالم نفسه الذي سبق وندد بمن تجرأ وعبر عن استياء أو قلق من فوضى خيوط العنكبوت.

وبينما كانت دول عدة في المنطقة يجري تفتيتها والعبث بها بمساعدة رئيسية من قبل مواقع التواصل الاجتماعي، كانت الأذرع الحقوقية الغربية تدافع بشراسة عن الحريات المطلقة على الشبكة، وهي أيضًا الأذرع نفسها التي انتهجت منهج «لا أسمع لا أرى لا أتكلم» بمطالبات وخطوات غربية لمساءلة القائمين على أمر «فايسبوك» مثلاً في كيفية الحصول على معلومات المستخدمين، أو مطالبة المجتمع المعلوماتي بوضع قواعد للاستخدام الآمن لمنصات التواصل الاجتماعي.

وفي مناسبات عدة، حذر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من مغبة الاستخدام غير المنضبط لهذه المنصات. وكان أحدثها في مارس الماضي حين قال إن الإقبال الكبير من الشباب على مواقع التواصل الاجتماعي وقيام البعض بالتواصل بطريقة غير مسؤولة تمثل تحديًا كبيرًا على المستويين العربي والأفريقي.

وقبل أيام، خرج صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي بعشر نقاط حيوية سماها «الأطر العامة المميزة للشخصية الإماراتية على مواقع التواصل الاجتماعي». تراوحت الأطر بين شخصية تعكس الاطلاع والثقافة والحضارة، والبعد عن السباب والشتائم وما يخدش الحياء، والاحتكام إلى المنطق والعلم في الحوار، وتقدير الكلمة الطيبة والتفاعل الإيجابي مع الثقافات والأفكار، وتقبل الخلاف وانتهاج مبدأ بناء الجسور، ونفع الآخرين بالمعلومات والمبادرات المجتمعية والإنسانية، والتمسّك بالتواضع والمودة والانفتاح على الآخرين مع حب الوطن والفخر به والانتماء له، وضع صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم «مانيفستو» لاستخدام منصات التواصل الاجتماعي.

والحقيقة أن هذا (المانيفستو) ينبغي أن يكون أطراً ليس فقط للشخصية الإماراتية على مواقع التواصل الاجتماعي، بل لكل شخصية ترى في نفسها القدرة على الاستخدام المسؤول والتنظيم الذاتي وتصحيح الدفة على مواقع التواصل الاجتماعي.

وهذا ليس كلاماً في الهواء أو نابعاً من نظريات مثالية بعيدة عن أثير العنكبوت. فقد عايشت بنفسي تجارب لنماذج شبابية عديدة من دول عربية وأفريقية قررت أن تستخدم مواقع التواصل الاجتماعي استخداماً مسؤولاً. منهم من عبر عن استياء من انتشار هذا الكم المذهل من الأخبار الكاذبة والمعلومات المغلوطة فقرر عدم المشاركة إلا بعد التأكد، ومنهم من اكتشف أن مواقع التواصل تلتهم جانبًا كبيرًا من وقته وجهده فألزم نفسه بحد أقصى ساعة يوميًا. وهناك من صنع لنفسه توليفة من منصات الإعلام التقليدية والجديدة لتكون مصدره اليومي من السعرات المعلوماتية، وغيرها.

التنظيم إذن ممكن، والإدراك السياسي موجود، والإحساس بالمسؤولية والرغبة في التنظيم الذاتي وفهم المخاطر متوافرة لدى الكثيرين.

* كاتبة صحفية

Email