«البريكسيت» أزمة كشفت مشاكل بريطانيا

ت + ت - الحجم الطبيعي

من الذي يدعم البريكسيت؟ فوزارة الزراعة تقف ضده، تماماً كما الصناعة والخدمات التي لا يدعم أي منها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بلا اتفاق. غير أن حزب المحافظين الذي آثر الاتحاد الأوروبي على مدى عقود لأسباب اقتصادية لم تصبه الشكوكية الأوروبية بعد، وهو يصرّ في المقابل على اتباع مسار تعتبره كل دولة رأسمالية مرموقة وغالبية الشركات الرأسمالية الكبرى حمقاء للغاية. ولو أبدى أي رئيس وزراء في السابق مثل هذا الجهل المطبق حيال ديناميات الرأسمالية العالمية لتدخل كبار أصحاب رؤوس الأموال البريطانية جماعات لفرض تغيير في المسار. غير أنه اليوم، وفي حين يدعو كل من الاتحاد الصناعي البريطاني وصحيفة «فايننشال تايمز» اللندنية إلى بريكسيت يكون ليناً قدر المستطاع، لم يعد المحافظون يصغون إلى أحد.

أما عن سؤال ولماذا لا يفعلون؟ فلأنهم، تشير إحدى الإجابات، باتوا ببساطة يمثلون مصالح شريحة بسيطة من الرأسماليين الذين يموّلون الحزب. ويعوّم الصيغة المتطرفة لهذا الجدال كل من رايتشل، شقيقة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون ووزير الخارجية الأسبق فيليب هاموند اللذين أشارا بأن البريكسيت الصعب تقوده العلاقة الفاسدة بين رئيس الوزراء ومانحي المحافظ الوقائية الذين قاموا بالبيع المكشوف للجنيه الإسترليني والاقتصاد برمته. ومع أنه من غير المرجّح أن يكون ذلك صحيحاً لكنه يشير إلى حقيقة أكثر إثارةً للقلق.

الحقيقة أن الرأسماليين الذين يدعمون البريكسيت غالباً ما لا تجمعهم روابط وثيقة بالاقتصاد البريطاني. والأمر ينطبق على المحافظ الوقائية كما على المصنّعين من أمثال سير جيمس دايسون الذي ما عاد ينتج في بريطانيا. أما مالكو الصحف المطالبة بالبريكسيت فهم من الأجانب أو من المقيمين في الخارج كسير جيمس راتكليف صاحب شركة «إينيوس» للكيماويات.

إلا أن القصة الحقيقية أكبر بكثير والمثير للاهتمام فيها لا يتعلق بالروابط القائمة بين رأس المال وحزب المحافظين بل بمدى الشقاق المتنامي بينهما. رأس المال الموجود اليوم في بريطانيا ليس بريطانياً ولا هو مرتبط بحزب المحافظين، حيث كانت الأمور مختلفة كثيراً لمعظم القرن العشرين.

شهدت الأمور منذ سبعينيات القرن العشرين تغييراً جذرياً ولم يعد هناك اليوم شيء من قبيل الرأسمالية الوطنية البريطانية. وأصبحت لندن مكاناً يجتمع فيه العالم للقيام بالأعمال، ولم تعد مكاناً حيث الرأسمالية البريطانية تقوم بأعمال العالم. وتنتشر في كافة أنحاء بريطانيا شركات مملوكة من قبل أجانب، معظمها صناعات مؤممة تبني المفاعلات النووية، وتدير محطات سكك الحديد من الخارج. ومن غير المستغرب أن تتسم تلك بعدائية حيال البريكسيت.

البريكسيت مجرد مشروع سياسي لليمين المتشدد داخل حزب المحافظين وليس داعميه الرأسماليين. وقد تمكنت تلك القوى في الواقع من أن تسيطر على الحزب، ويعود جانب من السبب في ذلك إلى أن الحزب لم يعد مستقراً بفعل الارتباط العضوي القوي، لا قومياً ولا محلياً.

ويفضح البريكسيت ضعف الدولة التي كانت يوماً متصلة بالحزب الحاكم، المحافظ تحديداً. لقد كانت بريطانيا قادرةً يوماً على تغيير المملكة المتحدة وعلاقاتها ببقية العالم جذرياً وبسرعة، كما حدث في الحرب العالمية الثانية، حتى أنها كانت قادرة على تغيير طريقة انضمامها للسوق المشتركة.

اليوم، تطول عملية الانسحاب بدءاً بالاستفتاء وصولاً للتطبيق، إذا ما حصل، بقدر ما طالت الحرب العالمية الثانية. وقد نأت الدولة البريطانية الحديثة بنفسها عن الاقتصاد المنتج وهي بالكاد تستطيع أن تمتلك رأياً خبيراً حيال إشكاليات الرأسمالية الحديثة. وتجلى ذلك بشكل مؤلم في تقارير تأثير البريكسيت التي أجبرت الحكومة على نشرها، وقد أتت على شكل تقارير منسوخة وملصقة لا أكثر.

لا يمكن للدولة أن تتحمل التخطيط والتدخل الجذريين اللذين قد يُنجحان البريكسيت. إذ إن ذلك قد لا يتطلب فقط دولةً خبيرة، بل واحدة متماشية بشكل وثيق مع عالم الأعمال. وكانت الاستعدادات اليوم لتكون واضحة على المستويين التقني والسياسي. لكننا لا نملك شيئاً من هذا. لكن لدينا اقتراح يقول بأنه لن يحصل الكثير فيما يتعلق بعدم التوصل إلى اتفاق، وبأن الاتفاقات الصغرى ستظهر. أما الأمل الوحيد الذي يتمسك به المتحزبون للبريكسيت بأن يستمر الاتحاد الأوروبي بالقيام بالأعمال التجارية مع بريطانيا وكأن شيئاً لم يكن. البريكسيت مجرد وعد من دون مخطط لكن في العالم الحقيقي فإن البريكسيت يعني الانسحاب، واللااتفاق يعني اللااتفاق.

يعتبر البريكسيت أزمةً ضرورية قدمت حسابات طال زمن استحقاقها على أجندة الحقائق البريطانية. لقد عرّى البريكسيت طبيعة الاقتصاد، والعلاقات الجديدة بين الرأسمالية والسياسة، وفضح مكامن ضعف الدولة. كما سلّط ضوءاً ساطعاً على فهم مؤيدي البريكسيت السياسي المضلل حول موقع بريطانيا في العالم. وحده الفهم الجديد قد يتمخّض عن سياسة تحسين قومي جديدة، بدونها قد نبقى عالقين في السياسات التضليلية الإحيائية لمملكة الموز.

* بروفسور بالجامعة الملكية في لندن

كلمات دالة:
  • البريكسيت،
  • بريطانيا،
  • المملكة المتحدة ،
  • اتفاق بريكست
Email