أحجية السياسة الخارجية لترامب

ت + ت - الحجم الطبيعي

كيف نفسّر تهديد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتدمير اقتصاد تركيا وهو الذي أعطى عملياً الضوء الأخضر لها لاجتياح الأراضي السورية المجاورة لحدودها؟!

وكيف نفسّر تصريحات ترامب عن سعيه لسحب القوات الأمريكية من منطقة الشرق الأوسط بينما يُعلن مسؤولون في «البنتاغون» أنّ عدد القوات الأمريكية قد زاد في هذه المنطقة 14 ألفاً منذ شهر مايو الماضي؟!

ثمّ كيف تهضم السياسة الخارجية الأمريكية هذا التناقض المتواصل بين مواقف ترامب الإيجابية من الرئيس الروسي بوتين، منذ وصول ترامب للرئاسة، بينما يشترك «الديمقراطيون» و«الجمهوريون» في الكونغرس في المواقف السلبية من روسيا ويؤكدون على ما تضمنته «استراتيجية وزارة الدفاع» من تصنيف روسيا والصين كخصمين منافسين للولايات المتحدة؟

لقد «نجح» ترامب حتى الآن في تفكيك عزلة بعض خصوم أمريكا (كوريا الشمالية) وحاول أيضاً إعادة روسيا لمجموعة الدول الصناعية وإنهاء بعض العقوبات ضدها، بينما ساهم في عزل الولايات المتحدة في قضايا دولية عدة (اتفاقية المناخ – الاتفاق النووي مع إيران - القضية الفلسطينية)، وتسبّب في أزمات سياسية وتجارية مع حلفاء أمريكا الأوروبيين وكندا والمكسيك! ولم يعد العالم اليوم يعرف ما هي فعلاً السياسة الخارجية الأمريكية، وعلى أي أرضٍ تقف استراتيجيتها، ومن هي المرجعية الأمريكية الصالحة لتحديد السياسات المتعلقة في شؤون الحرب والسلام والمفاوضات.

ولقد أدّت الحرب التجارية لترامب مع الصين إلى أضرار كثيرة للولايات المتحدة وللصين وللعالم ككل، وهي في حال استمرارها ستدفع إلى أزمات اقتصادية عالمية، وستؤثر كثيراً على المصير السياسي لترامب نفسه، حيث تضررت ولايات أمريكية عدة تعتمد على صادراتها للصين في منتوجاتها الزراعية والحيوانية، إضافة إلى ارتفاع أسعار الكثير مما يستهلكه الأمريكيون من مصنوعات صينية.

إنّ الاستراتيجية الأمنية الأمريكية التي جرى نشرها في ديسمبر 2017 كانت سلبية جداً تجاه روسيا والصين.

وكانت القوى الاقتصادية والعسكرية والأمنية التي تقف خلف هذه الاستراتيجية هي أيضاً التي كانت وراء ما شهدناه في فترة حكم أوباما من سعي لتركيز الاهتمام الأمريكي على منطقة شرق آسيا، حيث تجاوبت إدارة أوباما إلى حدٍّ ما مع ضغوطات هذه القوى دون الوصول إلى مرحلة القطيعة مع الصين أو روسيا أو اعتبارهما الخصم الأول لأمريكا.

فالعالم اليوم ليس كما كان في حقبة الحرب الباردة بين معسكر شيوعي وآخر رأسمالي. عالم اليوم يقوم على المنافسة بين قوى كبرى قد تختلف أو تتّفق تبعاً لمصالح اقتصادية أولاً وبما يضمن تفوّق هذا الطرف أو ذاك تكنولوجياً وعسكرياً.

فليست مشكلة موسكو فقط مع مؤسسات أمريكية فاعلة الآن في إدارة ترامب، أو مع سلفه أوباما، بل إنّ جذور المشكلات تعود لفترة إدارة بوش الابن، حيث وقف الرئيس بوتين في مؤتمر ميونخ للأمن في العام 2007 محتجّاً على السياسة الأمريكية التي كانت سائدة آنذاك.

فأولويات روسيا كانت هي أمنها الداخلي، وأمن حدودها المباشرة في أوروبا، وإصرارها على مواجهة أيّة محاولة لعزلها أو لتطويقها سياسياً وأمنياً.

وموسكو أدركت أنّ الوجود العسكري الأمريكي في منطقة الخليج العربي وفي أفغانستان وفي العراق وفي جمهوريات آسيوية إسلامية، هو بمثابّة تطويق شامل للأمن الروسي، يتكامل مع تمدّد حلف «الناتو» في أوروبا الشرقية ومع نشر منظومة الدرع الصاروخية.

وهذه كانت سياسة الدولة الأمريكية، ولم تكن فقط سياسة حاكمٍ في «البيت الأبيض»!

إنّ فرنسا وألمانيا، وهما أساس الاتّحاد الأوروبي، ترفضان سعي ترامب لإضعاف الاتّحاد، والذي كانت بوادره بدعم ترامب لخروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبي، ثمّ إصرار الرئيس الأمريكي على التعامل الثنائي مع الدول الأوروبية وعقد اتفاقاتٍ خاصّة مع كل دولة وليس في إطار منظمّة أوروبية مشتركة.

كذلك كان الأمر مع جوار الولايات المتحدة، حيث أسقط ترامب اتفاقية «نافتا» التي كانت تجمع بين دول أمريكا الشمالية، وحيث التهجّم العلني من ترامب على المكسيك بسبب عدم مساهمتها في إقامة الجدار على الحدود معها.

إنّ إدارة ترامب هي حالة شبيهة بما حدث في إدارة جورج بوش الابن من عزلة أمريكية نتيجة لمحاولة تغيير ما كان قائماً من نظام عالمي فرض نفسه بعد سقوط الاتّحاد السوفييتي، لكن لدوافع وأهداف مختلفة.

فترامب تحدّث عن «أمريكا أوّلاً» بينما ما يمارسه من سياسة خارجية أدّت وتؤدّي إلى عزلة الولايات المتّحدة دولياً حتّى مع حلفاء تاريخيين لأمريكا.

إنّ شعار «أمريكا أولاً» الذي رفعه ترامب في حملته الانتخابية، وكرّره في أكثر من مناسبة، هو نقيض الواقع والممارسة العملية لسياسة إدارته، حتّى في المجتمع الأمريكي نفسه.

فشعار «أمريكا أوّلاً» يتطلّب على المستوى الداخلي رئيساً يحرص على التعدّد الإثني والعرقي في المجتمع الأمريكي، وترامب صرّح وتصرّف عكس ذلك مع الأمريكيين الأفارقة والمسلمين والمهاجرين اللاتينيين.

والمصلحة القومية الأمريكية تفترض وجود رئيس في «البيت الأبيض» يعمل لصالح الفئات الفقيرة والمتوسّطة من الأمريكيين، وترامب خدم ويخدم الفئة القليلة من الأثرياء في الكثير من مراسيمه الرئاسية وبعض قوانين الكونغرس، وما يتّصل بها من مسائل الصحّة والهجرة والضرائب والضمانات الاجتماعية.

الحال هو نفسه على مستوى السياسة الخارجية الأمريكية، حيث أخرج ترامب الولايات المتحدة من اتفاقيات دولية وهدّد بالخروج من المزيد منها، وهي اتفاقيات كانت تحقّق المصالح القومية الأمريكية.

Email