حروب دونكيشوتية على صهوات الإنترنت

ت + ت - الحجم الطبيعي

يقولون: (إنّ حريتك تنتهي عندما تبدأ حرّيات الآخرين).. وهذا مبدأ لا يختلف عليه اثنان، لأنّ أحداً منّا لا يرغب بأن يتجاوز الآخرون حدودهم ليقتحموا عالم حرّيته.. لكن مسألة الحرّية هذه بدأت تأخذ أبعاداً كثيرة في العصر الحديث، ليتمّ تفسيرها وفق أهواء المفسّرين أنفسهم، مع أنّ كلّ القوانين واضحة في منح الشعوب حرّياتها وإن كان بعض من الدول على امتداد العالم لا تمنح هذه الحريات لمواطنيها.

والحرّيات المتعارف عليها هنا، هي حرّية المعتقد الديني، والأيديولوجي، وحرّية التعبير، وغيرها من الحرّيات، لكن القوانين في كلّ بقاع الأرض، تحدّد حرّية الأفراد بما يضمن أمن الوطن والأفراد والمجتمع، فتُعامَل الحرّيةُ معاملةَ الجنحةِ أو الجناية إذا ما تسبّبت بتهديد الأمن والاستقرار والعيش المشترك.

من هنا تأتي أهمية توضيح الحدود الفاصلة بين حرّية التعبير؛ وتجاوز الضوابط الاجتماعية والقانونية، تلك الحرية التي وَجَدَت أوسع الثغرات عبر منصات الإنترنت، التي تحوّلت بدورها إلى ساحة واسعة تضمّ أشكالاً وألواناً من نماذج البشر: من يبحث عن المعرفة، ومن يبحث عن التسلية، وذلك الذي يحرّكه الفضول، وآخر ينقاد وراء القطيع أو يغرد خارج السرب.

والأهمّ من الجميع قادة الحروب الدونكيشوتية عبر ساحات وسائل التواصل الاجتماعي!

أولئك الذين يستلّون كلماتهم من أغمادها ليحاربوا بها طواحين الهواء في ساحات القتال الافتراضية، هذا يدافع عن فكرة، وذاك يقاتل باسم الدين، وآخر يحمل لواء الوطن والوطنية.. وكأن لا عمل لهؤلاء سوى النقر على أزرار لوحة المفاتيح ليحقّقوا انتصاراتهم المزعومة.

الخطير في هذا الأمر هو تحوّل كثير من هؤلاء إلى قادة رأي يؤثّرون بمتابعيهم وجمهورهم، ويستطيعون بكلمة واحدة أن يشعلوا حرباً بين آلاف الأشخاص، حتّى أصبح بعضهم أيقونات يمجّدها الكبير والصغير، وحقّق آخرون شهرة كبيرة في لمح البصر؛ وجمعوا أموالاً طائلة بفضل سذاجة جمهورهم، بينما استغلّ الأشخاص الخطرون ساحات التواصل الاجتماعي في تحقيق مآرب خفية، ومن هذه الفئة تحديداً برز الناطق الإعلامي باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي الذي يحظى بجمهور كبير من العرب، من منطلق (اعرف عدوك)، لكن وفي واقع الأمر لم تعد معرفة العدو هي السبب وراء متابعة أفيخاي، وإنما تحوّل هذا الشخص إلى قائد رأي يستطيع بثّ الفتنة بين متابعيه بكلمة واحدة، والمثير للاشمئزاز هو استعارته لأمثال شعبية عربية أو أحاديث شريفة أو حتى آيات من القرآن الكريم، لإقناع متابعيه بفكرة معينة.

هذا في السياسة، أما في الفنّ فالحديث له شجون، لأنّ هذه الساحة شهدت بروز فنانين وفنانات من الدرجة العاشرة، كسبوا ملايين المتابعين بأساليب رخيصة، دون أن يمتلكوا أية موهبة فنية، فلا هم بالممثلين ولا المطربين ولا أصحاب المواهب، وإنما يمتلكون القدرة على الإقناع عبر استغلال غرائز الناس، وميلهم لتوافه الأمور والتسلية المجانية.

أما الأخطر من الصنفين فهم رجال الدين الزائفون الذين تجرؤوا على الحديث باسم الدين والدفاع عن الله عبر بثّ الفتنة، متناسين أنّ (الفتنة أشدّ من القتل)، ومدفوعين بأهداف خبيثة لتفرقة أبناء الوطن الواحد، وبلبلة الأمن والاستقرار الأهلي، ومما يؤسف له أنّهم يؤثّرون بآلاف الأشخاص من ذوي الإيمان الضعيف، ليقودوا حرباً يشعلونها بين الإخوة، فأين علماءُ ورجالُ الدين الحقيقيون عنهم؟!

من المضحك كم من الشجاعة يمتلك قادة الحروب الافتراضية وهم وراء الشاشات، يحركون هذا البيدق ويبعدون ذاك، ويهمسون في أذن آخر، أو يعلنون آراءهم على الملأ دون خوف أو خجل، فهم أبطال الإنترنت بلا منازع، ولو وُضِع أيٌّ منهم أمام اختبار واقعي وحقيقي بالشجاعة لفشل وانهار وذاب وكأنه لم يكن يوماً موجوداً.

في مواجهة هؤلاء الأدعياء، ندعو قادة الرأي الحقيقيين لكي يأخذوا الدور المنوط بهم، ويتحمّلوا مسؤولية تحريك الرأي العام لما فيه مصلحة الوطن وخدمة المجتمع وتقديم المعرفة والمنفعة والخير للناس، فساحات الإنترنت واسعة ومتاحة للجميع، ووسائل التواصل الاجتماعي لها من الإيجابيات أكثر مما فيها من السلبيات، وقادة الرأي هم الأقدر على نشر الأفكار البنّاءة، وبثّ روح التفاؤل، واستثمار هذه التكنولوجيا في تعزيز الأفكار المتنوّرة، ومحاربة الأفكار الهدّامة، وتكريس ثقافة المعرفة والبحث عن المعلومة الصحيحة بالطرق الصحيحة، لتكون وسائل التواصل الاجتماعي عاملاً إيجابياً في الحياة الثقافية والمعرفية لجيل الشباب، ولجميع أفراد المجتمع.

ولنا في ذلك نبراس نستضيء به، هو رؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي «رعاه الله» الذي قال: «سنعمل دائماً على ترسيخ وسائل التواصل قوةً للخير، وأداةً للتنمية، ومنصةً للفكر، وبرلماناً مفتوحاً، وإعلاماً لا يمكن الالتفاف عليه».

Email