الدولة الوطنية في مواجهة حملات التحريض

ت + ت - الحجم الطبيعي

في أثناء تظاهرات 25 يناير عام 2011 وفى أعقابها، أعلنت قناة «الجزيرة» أن أرصدة الرئيس الأسبق حسني مبارك في الخارج بلغت 70 مليار دولار، وتبين أن هذا الرقم منقول عن جريدة «غارديان» البريطانية حتى يكتسب بعض المصداقية، غير أنه تبين فيما بعد أن «قطر» تمتلك أغلب أسهم هذه الجريدة، وكشفت التحقيقات كذب هذا الادعاء وخلوه من الحقيقة، بيد أن المهم أن هذا الادعاء الكاذب كان قد وصل إلى وجدان ووعي أغلبية المواطنين البسطاء، بل وتساءل بعضهم أن تقسيم هذا المبلغ على مجموع هؤلاء المواطنين كفيل بحل مشكلات الفقر في مصر، وبطبيعة الحال تم انتقال هذا الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وأصبح على ما يبدو حينئذ حقيقة افتراضية، رغم أن الواقع والوقائع سواء تلك المتعلقة بالموارد الاقتصادية للدولة المصرية أو تلك المتعلقة بمحاكمة الرئيس الأسبق قد أثبتت زيف هذا الرقم.

في الآونة الأخيرة وعلى مدار الأسابيع القليلة الماضية، تعرضت الدولة المصرية والرئيس والقوات المسلحة لحملة من الأكاذيب والشائعات المغرضة، والتشكيك في سياسات الدولة المصرية، ونزاهة مؤسساتها من خلال وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، والحسابات المزيفة على الإنترنت والفيديوهات المفبركة، التي استهدفت تزييف وعي المصريين وتحريضهم ضد الدولة وأجهزتها والتشكيك في السياسات والإنجازات المتحققة خلال هذه السنوات.

بيد أن وعي المصريين وحكمتهم المختزنة عبر العصور والدروس التي استخلصوها خلال الأعوام المنصرمة، قد أفسد تخطيط الدوائر التي تقف خلف هذه الحملة، بل أفضى وعي المصريين إلى مزيد من التماسك الوطني والتأييد للدولة المصرية والقيادة السياسية.

في النصف الثاني من القرن العشرين، كانت الإذاعة هي الأداة التي من خلال السيطرة عليها، يمكن تغيير نظام الحكم والسيطرة على مقاليد البلاد وإعلان البيان الأول للناس، عن هذا التغير، وبتطور تكنولوجيا الاتصال الجماهيري وظهور التلفزيون بعد ذلك بسنوات عدة وتطور تقنيات البث، أصبح التلفزيون مع نهاية ثمانينيات القرن العشرين وبداية انهيار نظم أوروبا الشرقية، بمثابة مقر هيئة أركان الثورة في رومانيا على سبيل المثال، تذاع من خلاله البيانات، ويتم إدارة عملية الانتقال الثوري من النظام القديم إلى النظام الجديد.

مع بداية الألفية الثالثة واختراع الإنترنت وتطور البث المباشر العابر للحدود واتساع العولمة وظهور وسائل التواصل الاجتماعي بمختلف مسمياتها، دخل العالم وكل الدول في مرحلة جديدة، تواجه فيها الدولة الوطنية كما عرفها العالم منذ وستفاليا عام 1648 مرحلة جديدة ومختلفة عن مراحل التطور المختلفة التي مرت بها الدولة الوطنية.

فقدت الدولة الوطنية القدرة على التحكم والسيطرة في الرأي العام، وأصبح هذا الأخير يتشكل في جزء كبير من خلال أنظمة اتصالية وإعلامية عابرة للحدود، تنشر الفوضى والإرهاب والتحريض رغم القواعد التي يفترض أن تحكم هذا الفضاء الإلكتروني وتمكنت الجماعات الإرهابية والخارجة عن القانون والأعراف والقيم من اختراق وانتهاك هذه القواعد وخلق منصات إعلامية ثابتة ومتحركة تبث من خلالها السموم والفوضى، وتنشر بذور الكراهية والعنف وزعزعة الاستقرار.

لقد أصبحت قنوات البث المباشر المأجور والممولة من الخارج، ووسائل التواصل الاجتماعي عبر الفضاء الإلكتروني بمثابة مقر الحملات التي تروّج ضد الدولة الوطنية المصرية، وتصدير الوعي الزائف للمواطنين، ونشر التحريض والكراهية والفتنة بين الدولة والمواطنين، وأصبح الوجود الافتراضي على مواقع الإنترنت ووسائل التواصل بديلاً للوجود الحقيقي والواقعي على أرض الواقع.

وما يهمنا في هذا السياق أمران، يتعلق الأول بمواجهة تلك الحملات التي يبدو أنها لن تتوقف، لأن هناك من يمولها وينفق عليها مئات الملايين من الدولارات، كما أن هناك من هو مستعد للقيام بها، ولا شك أن حجر الزاوية في مثل هذه المواجهة في تقديري يتمثل في الشرح الوافي للسياسات التي تطبقها الدولة في كل المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، صحيح أن الإعلام يبرز هذه السياسات والإنجازات، ولكن بطريقة تقترب من التلقين وليس الشرح والتفسير، وصحيح أيضاً أن الرؤية الاستراتيجية الشاملة واضحة في ذهن الذين يضعونها، ولكنها ليست بالوضوح لدى العديد من المواطنين.

أما الأمر الثاني فيتمثل في توضيح طبيعة العقل الذي يوجه هذه الحملات، ذلك أن دخول الجماعات الإرهابية والمتطرفة إلى الفضاء الإلكتروني والتأثير فيه لا يعني أن هؤلاء يمتلكون عقلاً حديثاً، أي يستوعب منتجات الحضارة الحديثة ويؤمن بها، بل على النقيض من ذلك فالعقل الذي يدير هذه الحملات عقل ظلامي، أي ينتمي إلى القرون الوسطى، وارتباطه بالحضارة الحديثة ومنتجاتها ارتباط ذرائعي براغماتي، فهو يستخدمها طالما أن في ذلك فائدة له، ولكن يرفضها ويرفض ما وراءها من علم ومعرفة ونظريات حديثة.

وثمة أمور لا تقل أهمية عما سبق تتعلق بترسيخ ضرورة الدولة الحديثة لمجريات التطور، وكذلك إيمان المجتمع بالدولة كتنظيم اجتماعي حديث، وتعزيز سياسات الاندماج الوطني، وإدماج المعارضة الوطنية التي ساهمت في إسقاط نظام الإخوان وتؤمن بوجود الدولة وضرورتها وتقصر الاختلاف حول السياسات، وكذلك تعزيز الحوار الوطني وحريات الرأي والتعبير، هذه هي ضمانات إفشال الحملات المعادية وحماية مكتسبات المواطنين وتعزيز الدولة الوطنية.

Email