الغزو العثمانلي والعودة المستحيلة للفوضى «الخلاقة»!!

ت + ت - الحجم الطبيعي

لسنوات طويلة حكمت سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة نظرية «الفوضى الخلاقة»، كما أسمتها يومها، اعتبرت واشنطن أن الجماعات المتأسلمة بقيادة «الإخوان» هي القادرة على إعداد المنطقة للتغييرات المطلوبة ووضعها رهن التقسيم على أسس طائفية تغلق الطريق أمام أي حديث عن العروبة.

نجح المخطط لفترة، وبلغ أوجه استيلاء «الإخوان» على حكم مصر، وفي لحظة الزهو والاستعداد للمزيد من نشر الفوضى كانت بداية السقوط مع انتفاضة شعب مصر وجيشها ضد فاشية «الإخوان» وضد مخطط الفوضى «الخلاقة»، رغم كل الدعم الخارجي الذي تلقاه «الإخوان»، ورغم إطلاق الإرهاب لاستنزاف مصر، ثم الظهور المريب لعصابات «الدواعش» والانتشار المدمر لميليشيات الإرهاب وتمدد حروب الطوائف التي شاركت فيها كل القوى الإقليمية غير العربية التي لم تخف أطماعها في رفع أعلامها في عواصم العرب.

الآن - ومع ما تشهده الشقيقة سوريا من عدوان تركي يتزامن مع انسحاب أمريكي فتح الباب أمام الغزو التركي - نجد أنفسنا أمام سياسة أمريكية سقطت في مستنقع «الفوضى الخلاقة» التي زرعتها بنفسها من قبل، وظنت أنها ستكون بعيدة عنها، وستكون المستفيدة الوحيدة منها!!

لا أحد بالطبع يمكن أن يبيع وهم أن تركيا كان يمكن لها أن تتحرك لغزو سوريا الشقيقة، دون أن تحصل على موافقة الرئيس الأمريكي.

وفي تصريحات «ترامب» نفسه يتحدث عن «الحدود» التي ينبغي أن تلتزم بها تركيا، وإلا وقّع عليها العقوبات الاقتصادية، وهو ما يعني أن هناك اتفاقاً على هذه «الحدود».

أطماع تركيا في الأراضي السورية قديمة، والعدوان التركي الحالي هو ترجمة لهذه الأطماع، لا تذهب جيوش تركيا لاحتلال شمال سوريا وشرقها من أجل محاربة الإرهاب الداعشي، بل لإطالة عمره في المنطقة واستخدامه لتحقيق المصالح التركية!! ولا تسعى القيادة التركية لضمان أمنها، وإنما تهرب من مشكلاتها الداخلية بالمغامرات العسكرية في الخارج وبممارسة البلطجة في البحر المتوسط والتآمر مع الميليشيات الإخوانية الداعشية في ليبيا، ثم هذا العدوان الغاشم على الأرض السورية الذي يدينه العالم كله باستثناء من ضلوا الطريق إلى عالم الإرهاب الإخواني!!

كل ما قيل من مبررات زائفة للغزو العثماني لا مكان له في عالم الحقيقة، العالم يدرك أن تركيا كانت وما زالت الممر الأساسي لعصابات الإرهاب التي عبرت حدودها لتدمر سوريا، وأنها ما زالت مقر الآمر الإخواني على العرب والمسلمين والعالم، والكل يدرك أن مشكلة أردوغان هي أكراد تركيا «كما باقي الشعب التركي» وليس مع أكراد سوريا أو العراق، والكل يدرك - ما عدا أردوغان وتوابعه الإخوان - أن كل المغامرات الخارجية لن تنقذ نظاماً يتهاوى!!

الأخطر هنا هو ما تكشفه الأحداث الأخيرة عن الموقف الأمريكي الذي أعطى الإشارة الخضراء للعدوان التركي على سوريا، والقضية هنا ليست في الانسحاب من سوريا وإنما في الكيفية التي يتم بها، والظروف التي تحيط به، والتضارب المخيف في قرارات تمس أمن أمريكا والمنطقة والعالم.

قرار الانسحاب - كما يقول ترامب - هو تنفيذ لوعده في الانتخابات السابقة بألا يبقي جنود أمريكا مشتبكين في حروب بالخارج يعتبرها بعيدة عن مصالح أمريكا، هذه وجهة نظر ترضي قطاعاً كبيراً من الأمريكيين المناصرين لترامب، حتى وإن عارضتها مؤسسات الدولة ومعظم المفكرين والساسة بمن فيهم القيادات الجمهورية، هؤلاء جميعاً لا يرون كيف تحتفظ أمريكا بموقعها القيادي في العالم وهي تنسحب منه!!

والأخطر فيما كشفته الأزمة في سوريا هو هذا التضارب غير المسبوق في القرارات، وهذا الغياب لمؤسسات الدولة في صنع القرار الذي أصبح يصنع في مكالمة هاتفية أو في تغريدة على «تويتر» ثم يتغير كل ساعة تاركاً وراءه المزيد من الفوضى، والمزيد من التحذيرات عن ضياع المصداقية أو فقد الحلفاء أو غياب الرؤية السياسية الواضحة.

يكشف الموقف الأمريكي المتضارب والمرتبك عن الانقسام الكبير في المجتمع الأمريكي، وعن غياب للعمل المؤسسي في دولة عظمى لا تتحمل ذلك، كما يكشف الأمر عن انعكاسات أزمات ترامب الداخلية التي تتفاقم مع التحقيقات الخاصة بإمكانية عزله، كما تكشف - ومن قبلها أزمة الخليج - عن غياب الاستراتيجية التي توجه سياسة أمريكا، ويبدو المشهد وكأن سياسة أمريكا الخارجية قد أصبحت ضحية جديدة لـ«الفوضى الخلاقة» التي ابتدعتها ذات يوم بغرض التصدير للمنطقة العربية، فعادت لها بصورة أو بأخرى حتى وجدنا الرئيس ترامب نفسه يهدد بالحرب الأهلية إذا مضى الكونغرس في إجراءات عزله!!

وسط هذا كله يزداد اليقين بأن الغياب العربي لا بد أن ينتهي، وأن القوة العربية وحدها هي القادرة على حماية أمن العرب وإنهاء الفوضى التي دمرت دولاً، وإيقاف الفتن والحروب الأهلية والمذهبية التي أتاحت للنفوذ الأجنبي أن يرفع أعلامه في عواصم عربية، وسمحت لميليشيات الإرهاب أن تعبث بمستقبل أوطان وأن تتآمر على وحدتها وتبيع عروبتها.

التصدي للعدوان التركي على سوريا هو بداية لاستعادة سوريا والحفاظ على وحدتها وقطع الطريق على من يسعون لتقسيمها، والطريق لا بد أن يكتمل في اليمن وليبيا بالحل العربي الذي يستأصل ميليشيات الإرهاب، ويمهد الطريق للحل السياسي الذي يحفظ الدولة ويوقف التدخل الأجنبي بكل أشكاله.

الآن يعرف كل من لجأ للقوى الأجنبية لحمايته أنه سلك الطريق الخطأ، والآن يعرف كل من راهن على عصابات الإرهاب الإخواني وفروعها أنه راهن على الخيانة للدين والوطن، والآن يعرف كل من خدعته الأعلام المذهبية والطائفية حجم الخسارة التي لحقت به، حين تخلى عن علم العروبة وترك بلاده لمن أشاعوا الفوضى، وسعوا لهدم الدولة الوطنية وإعادة تقسيم العالم العربي وفقاً لمصالح الأعداء.

وتبقى ملاحظة أخيرة.. وحدها الدول الفاشلة هي من لا تعرف أنها وقعت في المصيدة وهي تواصل عدوانها وحماقاتها، لأن أمريكا منحتها «الإشارة الخضراء» في سوريا، أو لم ترد على جرائمها في الخليج!!

* كاتب صحافي

Email