يقول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، في أحد حواراته الصحفية: «لقد كان الشيخ راشد مجموعة رجال في رجل واحد، يملك إرادة وعزيمة وفكراً، ولقد تعلمت شخصياً منه، ومن خلال مجلسه وتوجيهاته وحرصه على أن يزرع بين جنبي تلك الميزات والصفات التي كان عليها، رحمه الله، وهو أبي ومعلمي وقدوتي، ومدرستي التي تعلمت فيها المبادئ والقيم والأخلاق والإرادة والقيادة، وأهم ما تعلمته منه حب الناس وحسن معاملتهم، ويكفيني أنه علمني أن أرسم البسمة على شفتي، وأستقبل الناس بها، وأزرع الثقة في نفوسهم، وأثق في موعود الله تعالى، ولا أجعل لليأس سبيلاً إلى نفسي مهما كانت الظروف، وإنما أغني للأمل كالطير في كل صباح ومساء».

شعب الإمارات على وجه العموم، وأهل دبي بشكل خاص محفور في وجدانهم يوم السابع من شهر أكتوبر من كل عام، والذي يصادف هذا العام الذكرى 29 لوفاة المغفور له، بإذن الله، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، الذي انتقل إلى جوار ربه في عام 1990 عن عمر يناهز 78 عاماً، قضاها، رحمه الله، في خدمة أمته ووطنه ومواطنيه، لقد كان راشد رائداً من رواد اتحاد الإمارات وبناء حضارتها، وأحد العظماء الذين حملوا راية ومشاعل التطور والتقدم وتغلبوا على التحديات، وشارك الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم في قيادة دولة الإمارات مع أخيه المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه.

لقد ترك راشد بصمات خالدة ومؤثرة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة، إذ قال عنه صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله: «رحل الشيخ راشد فقيد البلاد الكبير عنا ولم يتحدث يوماً عن إنجازاته على الإطلاق. رحل المغفور له، بإذن الله، وبقيت ذكراه خالدة».

وقال عنه المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان: «كان راشد فارساً مغواراً وصانعاً من صناع الاتحاد، خلف أعمالاً جليلة وإنجازات خالدة».

لقد عرفت دبي تاريخياً بأنها مدينة اللؤلؤ والتجّارة نظراً لموقعها الجغرافي المتميز، وشهدت التجارة في خور دبي نمواً متواصلاً طيلة عقود، حتى رأى باني نهضتها ومؤسسها الحاجة إلى بنية تحتية عصرية، وهي التي تمثّلت بداياتها في بناء ميناء راشد، الذي افتتحه المغفور له الشيخ راشد بعد أشهر قليلة من إعلان قيام دولة الاتحاد في ديسمبر من عام 1971، فكان الميناء الأحدث على سواحل الخليج العربي.

وسرعان ما تم تطوير الميناء من 11 رصيفاً ليصل إلى 35، وليكون أول ميناء في المنطقة قادراً على استقبال ومناولة السفن المحملة بالحاويات العملاقة.

وفي عام 1976، أعطى الشيخ راشد توجيهاته لإنجاز مشروع أكثر طموحاً، تمثّل في بناء أكبر ميناء من صنع الإنسان في العالم، في جبل علي، باتجاه العاصمة أبوظبي، وكان الهدف من بنائه دعم عمليات التجارة والشحن في ميناء راشد الواقع في قلب المدينة، وسرعان ما تم تغيير مفهوم الميناء الجديد على نحو أوسع، ليشمل التنمية الصناعية المتمثلة بمشاريع عدة.

وتعد هذه الموانئ قصة نجاح رافقت نهضة دولة الإمارات منذ إعلان قيام الاتحاد، حتى باتت اليوم إحدى أكبر مشغلي الموانئ والمحطات البحرية في العالم. ومما لا شك فيه، أن «درة» هذه الموانئ، يبقى ميناء جبل علي في دبي، الذي يعتبر أكبر ميناء على الإطلاق خارج جنوب شرقي آسيا، وفي الشرق الأوسط، وهو يعد فخراً لدولة الإمارات.

وفي كتابه «راشد بن سعيد آل مكتوم الوالد والباني»، يصف الصحافي البريطاني جريم ويلسن، ميناء جبل علي، بأنه أضخم ميناء من صنع الإنسان. وثاني أضخم مشروعين أنجزهما الإنسان على وجه الأرض، بعد سور الصين العظيم!

وتلا الميناء أيضاً مشروع الحوض الجاف لإصلاح السفن العملاقة. ليضيف بذلك للشيخ راشد، إنجازاً جديداً لسجل إنجازاته العديدة. فقد قال، رحمه الله، عن مشروع ميناء جبل علي: «إن إقامة هذا الميناء، تأتي تماشياً مع خططنا لجعل هذا البلد مركزاً له شأنه في المجتمع العالمي، ولكي نحول بلدنا من بلد يعتمد على التجارة فقط، إلى مركز يسهم في الصناعات العالمية المتطورة، ويسهل السبل أمام هذه الصناعات لتمضي قدماً في خدمة الإنسانية ومجالات الحياة المختلفة».

وتفيد شهادات رجال دبي الأوائل من رفقاء المسيرة، أن الشيخ راشد كان يحفزهم للعمل والإنجاز للمساهمة في تشييد البنية التحتية لدبي، والسير بهم ومعهم في اتجاه خريطة طريق رسمها بدقة لمستقبل دبي، وكان يباشر عمله الرسمي فجراً بالقيام بجولة تفقدية لكل مناحي دبي، ليتابع سير المشاريع، ويواصل لقاءاته في مجلسه العامر والمفتوح للجميع.

لقد أجمع ذوو الرأي على أن الشيخ راشد كان يحمل فكراً «ذا رؤية استشرافية»، ترى المستقبل بعين الحاضر، وتبني الحاضر انطلاقاً من رصيد تجارب الماضي، حيث إنه تميز بأسلوب في الحياة ينم عن فكر ناضج سابق لعصره. ويتفق كل من عاصره ورافقه، على أنه كان رجل دولة، وحاكماً حكيماً ونبيهاً، وقائداً ملهماً وقريباً من شعبه. طيب الله ثراه، وأسكنه فسيح جناته.