الطريق المسدود

ت + ت - الحجم الطبيعي

العنوان أعلاه لا علاقة له برواية إحسان عبد القدوس الشهيرة التي تحمل نفس الاسم، والتي تحولت إلى فيلم من كلاسيكيات السينما المصرية للمخرج صلاح أبو سيف، وكان من دلائل براعته أن من كتب له السيناريو هو نجيب محفوظ بمشاركة سيد بدير، ليوصلا معاً رسالة المؤلف التي تقول إن الخطيئة لا تولد مع الإنسان، بل يصنعها المجتمع.

أما الخطيئة التي نتحدث عنها في طريق مسدود آخر، فتصنعها السياسة.

انخلعت قلوب المصريين مع نشر الأنباء التي تتحدث عن أن المفاوضات مع الجانب الأثيوبي بشأن سد النهضة، وصلت إلى طريق مسدود. وكان من الطبيعي مع ذلك التطور المفاجئ أن تنقل الدبلوماسية المصرية القضية إلى المجتمع الدولي في الدورة 74 للجمعية العامة للأمم المتحدة التي أنهت أعمالها مؤخراً.

وفي خطابه أمامها قال الرئيس السيسي إن مياه النيل بالنسبة لمصر مسألة حياة وقضية وجود، مطالباً المجتمع الدولي بالقيام بدور بناء لحث جميع الأطراف على التحلي بالمرونة، للتوصل إلى اتفاق يرضي الجميع.

ومنذ اتخذ الطرف الإثيوبي خطوات بناء سد النهضة، كانت مصر تطالب بإجراء دراسات كافية عن الآثار الضارة المحتملة لهذا البناء على الموارد المائية لدولتي المصب مصر والسودان، للاتفاق على سبل تلافيها، وهو مالم يتحقق.

فتح الرئيس السيسي هذا الملف منذ توليه السلطة، لاسيما بعد أن بات ملفاً مثقلاً بتدهور العلاقات المصرية مع إثيوبيا، في أعقاب محاولة اغتيال الرئيس مبارك في أديس أبابا في صيف عام 1995، وبعد الحوار التلفزيوني البائس الذي تمت إذاعته إبان حكم الإخوان على الفضائيات لمحمد مرسي مع عدد من مستشاريه يطرحون عليه حلولاً لمشكلة السد، بينها التدخل العسكري والعمل المخابراتي لإشعال حرب قبلية داخل إثيوبيا، وغيرها من الاقتراحات غير المسؤولة التي تلقفها الطرف الإثيوبي باعتبارها موقف الإدارة المصرية الثابت من تلك المسألة.

وفي 23 مارس عام 2015 وقع الرئيس السيسي في الخرطوم اتفاق إعلان مبادئ حول سد النهضة مع الطرفين السوداني والإثيوبي لبدء مفاوضات، تنتهي بالاتفاق على عدد السنوات التي يتم خلالها ملء وتشغيل السد، ويتمثل الاقتراح المصري في أن تكون المدة سبع سنوات بدلاً من ثلاث، وهي مفاوضات استمرت أربعة أعوام دون التوصل لذلك الاتفاق، لتعود الأزمة إلى نقطة الصفر، برغم تعهد رئيس الوزراء الإثيوبي «أبي أحمد» بعدم المساس بمصالح مصر المائية من مياه النيل.

والجمعة الماضي فشل اجتماع وزراء الري في مصر والسودان وأثيوبيا الذي انعقد في الخرطوم في التوصل لاتفاق بعدما تمسك الطرف الإثيوبي بالحق السيادي في تحديد سنوات الملء وطرق التشغيل الذي بات مؤكداً أنه سينقص نحو 15 مليار متر مكعب من حصة مصر من المياه البالغة 55 مليار متر مكعب، فكان الإعلان المصري أن المفاوضات وصلت لطريق مسدود.

للموقف الإثيوبي الراهن أبعاد تاريخية، تتمثل في رفض الدولة الإثيوبية منذ هيلاسيلاسي وحتى الآن، الاعتراف باتفاقية 1959 بين مصر والسودان، التي تحدد حصص مصر من المياه، وتنظم العلاقات المائية بين البلدين، وعدم الالتزام بما سبقها من اتفاقيات ثنائية بشأن تدفق واستخدام مياه نهر النيل، انطلاقاً من سياسة مائية، تقوم على أن تلك الاتفاقيات تم إبرامها في العهود الاستعمارية مما يتوجب إعادة التفاوض بشأنها.

لكن الحكومات المصرية المتعاقبة تمسكت بأن الاتفاقيات بشأن مياه النيل ملزمة وسارية وقانونية حتى تتفق الدول المتشاطئة على النهر -11 دولة- على عقد اتفاقيات بديلة، تصون حقوق جميع الأطراف.

إذ من عجائب السياسة في قارتنا، أن النيل الذي يعد أكبر نهر في إفريقيا، لا توجد اتفاقية جماعية تنظم استعمال مياهه بين دوله! الطريق المسدود هو أيضا ما تروج له بعض التحليلات التي تتناول تلك الأزمة، زاعمة أن مصر قد تلجأ للحل العسكري وهو ما ينفيه الرئيس السيسي، مؤكداً أن الدولة مستمرة في اتخاذ ما يلزم من إجراءات، على الصعيد السياسي لحماية الحقوق المصرية في مياه النيل، طبقاً للقانون الدولي.

وكانت الخطوة الأولى لتنفيذ ذلك التوجه هو الطلب المصري بطرف دولي رابع للمشاركة في التفاوض.

وجاء البيان الأمريكي الداعي الأطراف المتفاوضة للتوصل لاتفاق «يحفظ حقوق الجميع» وإلى (احترام دول وادي النيل لبعضهم البعض فيما يخص حقهم في المياه ) ليعزز مبدأ التفاوض بين الأطراف، ويحدد شروطه ربما لتكون واشنطن هي الطرف الرابع الذي تطالب به مصر لاستئناف المفاوضات، قبل أن تقدم على خطوة التحكيم الدولي.

تحسباً للمستقبل، بدأت الحكومة المصرية في اتخاذ إجراءات داخلية من بينها إنشاء محطات لتحلية مياه البحر، والاستخدام المتكرر لمياه الصرف الصحي والزراعي المعالجة، وترشيد الاستهلاك الداخلي من المياه، بعمل تغيرات في التركيب المحصولي، والاعتماد على المياه الجوفية، وغير ذلك من اجراءات.

وعلى إثيوبيا أن تدرك أن حرب المياه التي تخوضها، هي بدورها طريق مسدود لأنها مع الشعب المصري وليس فقط مع حكومته، لتصبح بحق قضية حياة ووجود.

 

 

Email