لوحة بمليون فرنك!

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان بابلوبيكاسو جالساً في أحد المقاهي عندما اقتربت منه سيدة وطلبت منه أن يرسم لها شيئاً سريعاً، فأمسك بقلمه الرصاص وخلال 30 ثانية كان قد أنهى لوحةً جميلة، أخذتها السيدة شاكرة وهي تزمع الانصراف، لكنه فاجأها بقوله: «قيمتها مليون فرنك»، فردّت عليه وعلامات الدهشة قد عَلَت مُحياها: «كيف يُمكن أن تكون قيمة لوحة بقلم رصاص خلال 30 ثانية مليوناً من الفرنكات؟»، فرد عليها قائلاً: «إن اتقان رسم لوحة بهذا الجمال بقلم رصاص خلال 30 ثانية فقط استلزم مني 30 سنة»!

لم تكن جودة الرسم تلك وليدة اللحظة، أو نتاج نوم وأحلام يقظة، ولكنها احتاجت سنين طويلة من التعب والتركيز والسهر ودوام المحاولات وتحمل الإخفاقات وشماتة البعض الفاشل، فمن لا يريد البدء لن يصل، ومن لا يود بذل الجهد لن ينجح، ومن لا يعيد المحاولات دون يأس لن يذهب بعيداً، ومن لا يستطيع تحمل تشكيك الفاشلين وسخريتهم سيبقى في ظل حائطهم على الدوام!

كان هزاع المنصوري يُدشّن مشروع الإمارات المستقبلي للفضاء بينما كان بعض العرب ينشر التشكيك من فائدة الرحلة ويتباكى على الكُلفة العالية لها، ويغمز من طرفٍ خفي جدواها وأنها فقط لِلَفْت الأنظار، وحتى يجعل «نغزاته» منطقية حاول نثر التساؤلات عن الإضافة التي شكّلها هزاع وما هو الفارق الذي خلقه!

الرد ليس بعسير، فإنّ أُولى الفوائد أنَّ هزاع أصبح رائد فضاء رسمي، والإمارات وضعت اسمها ضمن النخبة الذين جعلوا الفضاء ميدان استثمارهم في المستقبل، فالفضاء ليس بذخاً أو مجرد صرعة للتباهي بها، فها هي مؤسسة مورغان ستانلي Morgan Stanley إحدى أكبر المؤسسات المصرفية في العالم تُقدّر العوائد الحالية لصناعة الفضاء Space Industry بقرابة 350 مليار دولار حالياً وستصل إلى تريليون دولار بحلول عام 2040 وهو مجال استثمار لا يمكن أن تُفرّط به الإمارات من أجل غد زاهر لأبنائها، وفيما يخص الفارق الذي صنعه هزاع فإنّه لم يكن مُطالباً بأن يقود مكوك الفضاء ولا أن يقود التجارب العلمية الدقيقة، هو بداية المشروع الطموح للإمارات والذي لا يريد البعض الذي أَلِف الفشل وأدمن التبعية أن يعترف بوجوده، ولسنا مُلزمين بإثباته له فالأيام بيننا، وقد علمنا المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ، طيب الله ثراه، أن الأعمال أعلى صوتاً من الأقوال!

إنّ المستكثرين لتلك القيمة على رحلة الفضاء يتناسون أنهم لن يحصلوا على كوب شاي «كَرَك» بدون مقابل، وأن ما يدفعونه لاستئجار دراجة هوائية لن يكون ذات المبلغ المفروض دفعه لمقعد درجة أولى بطائرةٍ متجهة لنيويورك، فكلما كانت أهمية الشيء أكبر كلما زادت قيمته، وإن كان هذا الشيء مندرجاً تحت «قانون النُّدْرة» كما هو حال مقاعد مكوك يتجه للفضاء فإن القيمة ستكون مبلغاً كبيراً للغاية، ومن السذاجة أن يظن البعض أننا دفعنا ذلك المبلغ الكبير لرحلة الفضاء بينما سيركب البقية مجاناً أو ببطاقات خصم من متاجر «كارفور»!

من يخجل من أحلامه الكبيرة لن يستطيع تحقيقها، ومَن يستكثر أن «يستثمر» بِكَرَمٍ في جعل أُسس طموحاته العظيمة تقف شامخة على أرضٍ راسخة فإنه لن يختلف عن البقية الذين رضوا أن يكونوا تَبَعاً لغيرهم، فالحياة تُلين قيادها للشجعان الأجواد، أما المنزوون في الزوايا المظلمة والمكتنزون للأموال دون أن تُنفَق في أوجهها فلن يعرفهم أحد، ولن يغيّروا ساكناً ولن يُشيدوا حضارة ولن يتركوا إرثاً ولن يذكرهم التاريخ حتى في هوامش صفحاته المنسية، ورحم الله المتنبي الذي كفانا مؤنة الرد على أمثالهم عندما أنشد:

لولا المشقّة ساد الناس كلّهم

الجودُ يُفقِرُ والإقدامُ قَتَّالُ

رحلتنا مع الفضاء في بداياتها ولسنا مستعجلين لحرق مراحلها ولسنا مطالبين بذلك أصلاً لأننا لا نحتاج إثبات شيء لأحد، نحن دخلنا مجال الفضاء من أجل مستقبلٍ أجمل لهذا البلد وأجياله القادمة ولم ندخله للمباهاة أو بحثاً عن فلاشات الكاميرات، فالبناء القوي يحتاج تأسيساً سليماً ووقتاً كافياً ومخزوناً تراكمياً من نتائج التجارب والمحاولات، وذلك ما نحن مستعدون له حتى نكون جزءاً من هذا العالم الواعد المترامي يُضيف له ويتشرّف بوجوده، لا ضيفاً شرفياً يأتي لالتقاط الصور ثم يرحل للأبد!يقول عرّاب الإدارة الشهير بيتر دراكر: «عندما ترى عملاً ناجحاً، تأكد أنّ هناك من اتخذ قراراً جريئاً»، ففي الدنيا ينقسم الناس بين تابعٍ و متبوع وكذلك الدول، فإن ارتضيت أن تكون تابعاً فلا سُلطة لك على مآل أمورك، فحيثما سار المتبوع سِرْت، إن أفلح حصلت على بعض ما يترك لك من فتات الموائد، وإنْ أخفق غرقت أكثر منه، لكن أصحاب النفوس الكبيرة والقلوب الجريئة لا يرضون إلا أن يسلكوا أرضاً لم يطأها غيرهم، فهم من يحددون مصيرهم ويرسمون مستقبلهم وعند وضع الموائد «يدسّمون شواربهم»!

إنّ ما تسعى له الإمارات بمشروعها للفضاء هو أن تجعل خصلة «المبادرة» ركناً مهماً من عاداتنا كدولة وكأفراد، فأسوأ الأشخاص وبالتبعية أسوأ الدول حظاً هي تلك التي تعيش على ردّات الفعل، ولا تبادر سريعاً لصنع مستقبلها بعيداً عن المعتاد أو ما يُحدّده الغير، فالمعادلة بسيطة الطرح: إمّا أن تجتهد وتناضل وتبحث بنفسك عن غدٍ زاهر لك أو أنْ تبقى تنتظر أن يترك لك أصحاب المبادرة بعض فُتاتهم، ثم يبيعوا لك لوحة رُسِمَتْ في 30 ثانية بمليون فرنك!

* كاتب إماراتي

Email