لا لليأس

ت + ت - الحجم الطبيعي

شاهدت قبل أيام قليلة، فيلماً وثائقياً على إحدى محطات التلفزة الأمريكية عن حياة الشاب الأسترالي نيك فوجيتشي الذي ولد في العام 1982 بدون ساقين وذراعين، ورغم ذلك فهو الآن يمارس حياة عادية ويُلقي محاضرات في العديد من دول العالم ويظهر في برامج تلفزيونية مختلفة وصدرت له مجموعة من الكتب. مثال آخر عن شخصية عالمية مميزة ربما أكثر من غيرها في عالم من هم تغلّبوا على عاهاتهم الجسدية، وهو العالم الفيزيائي الكبير ستيفن هووكنغ الذي أصيب بالشلل في كامل جسده وهو في مطلع عمر العشرينات، فلم ييأس ولم يُوقف أبحاثه العلمية بل استمر في عطائه العلمي الكبير من خلال استخدام حركة العيون فقط وكرسي خاص للتواصل مع الآخرين.

الأمر لا يتعلق فقط بمن هم نماذج للمتفوقين والمشاهير من ذوي العاهات الجسدية الذين رفضوا الاستسلام لواقع جسدهم أو اليأس من الحياة عموماً، بل هناك أهمية كبيرة للعامل النفسي في السيطرة على عدة أمراض تصيب الناس في مراحل مختلفة من العمر، ولعلّ ما نشره الطبيب اللبناني المعروف الدكتور فيليب سالم عن خلاصات أبحاثه وتجاربه مع مرضى السرطان في مركز عمله بمدينة هيوستن الأمريكية، ما يؤكد أهمية عدم يأس الإنسان حتى لو أصيب بمرض عضال، حيث الشعور بالأمل يمنح هذا الإنسان قوة مناعة إضافية في مواجهة المرض والمساعدة بالشفاء منه.

وما يصحّ على الإنسان ـ الفرد يصحّ أيضاً على الإنسان ـ المجتمع، فكم من أخطار عديدة تعرضت لها أوطان نتيجة حالة اليأس والاستسلام التي نخرت عقول شعوبها، وكم أيضاً من حالات معاكسة أكّدتها تجارب شعوب أخرى بسبب رفض الخضوع للواقع أو اليأس من إمكانية تغييره، فنجحت في تجاوز أمراضها الاجتماعية والسياسية، وبنت مجتمعاتها واقتصادها من جديد وتحررت من مصادر ضعفها الداخلية والخارجية.

في الحاضر العربي، هناك مزيج من الأسباب التي تؤدي إلى السلبيّة وإلى مشاعر الإحباط واليأس. بعض هذه الأسباب مرتبط بعوامل خارجية ناتجة عن تدخّل أجنبي، وبعضها الآخر هو محصّلة تراكمات داخلية من عناصر الفساد في الحكم أو حالات التمييز والفقر أو نتيجة تعثّر محاولات الإصلاح والتغيير السليم أو انعدام الثقة بجماعات وقيادات.

وقد أصبحت هناك علاقة جدلية بين سوء الأوضاع في الداخل وبين محاولات الهيمنة من الخارج، كما هي أيضاً العلاقة السببية بين عطب الحكومات وبين تدهور أحوال المجتمعات والحركات السياسية المعارضة فيها. فكلّما غابت في المجتمعات البنى السياسية والدستورية والاجتماعية السليمة، كلّما كان ذلك مبرّراً للتدخّل الأجنبي ولمزيدٍ من الانقسام بين أبناء الوطن الواحد. وتزداد المشاكل الداخلية تأزّماً كلّما ارتهن البعض لإرادة الخارج من أجل ضمان استمراره في الحكم، أو لمزيدٍ من المصالح الخاصّة التي يوفّرها الخارج مؤقتاً، فإذا بها لاحقاً تصبّ بهم وبالأوطان معاً في مهبّ المصالح الخارجية حصراً.

وهناك في الأمّة العربية من تحدّث عن ما يزعم أنها «يقظة دينية» بينما هي لدى البعض عودة إلى «أصولية جاهلية» تهتمّ بالقشور ولا تركّز على مبادئ الدين وقيمه. وتهدّد تداعيات العنف الداخلي المسلّح، الجاري الآن في بعض البلدان العربية، مصير هذه البلدان وقد يكون ختامها نجاح المشروع الإسرائيلي التقسيمي فقط، حتّى على حساب المشاريع الدولية والإقليمية الأخرى الراهنة للمنطقة.

هو حاضر عربي سيء، لكن ماذا بعد؟! هل الحل في السلبية وفي البكاء على الأطلال وفي ترداد: «أُبْكوا كالنساء مُلكاً لم تحافظوا عليه كالرجال»؟!. وهل يؤدّي الهروب من المشاكل إلى حلّها؟! وهل يصلح الاحباطُ واليأس وابتعاد الناس عن العمل العام الأوطانَ والمجتمعات؟!

الحل أساسه وقف حال الانهيار الحاصل في وحدة المجتمعات وبناء البدائل الوطنية السليمة. فشعوبٌ كثيرة مرَّت في ظروف مشابهة لكنّها رفضت الموت السريري البطيء، فنهضت من جديد وصحّحت أوضاعها وأرست دعائم مستقبل أجيالها. فاليابان خرجت من الحرب العالمية الثانية مدمَّرة ومهزومة وعاشت تجربة استخدام السلاح النووي ضدّها - وهذا ما لم يحصل في أي مكان آخر بالعالم - ورغم ذلك استطاعت اليابان أن تخرج من تحت الأنقاض وتعيد بناء ذاتها لتكون قوة اقتصادية عالمية منافسة لقوى عظمى.

وفي هذه التجربة اليابانية، برز التمسّك الياباني بالهوية الحضارية الخاصّة القائمة على نظام حكم ديمقراطي، وعدم الخلط بين استيراد العلم والمعرفة التقنية، وبين المحافظة على التراث الحضاري ـ الثقافي لليابانيين.

كذلك هي التجربة الألمانية، حيث لم ييأس شعب ألمانيا من إمكانات وحدته ومن عوامل تكوينه كأمَّة واحدة، رغم تقسيم ألمانيا لدولتين وبناء ثقافتين متناقضتين فيهما لحوالي خمسين عاماً أعقبت الحرب العالمية الثانية، وبناء «حائط برلين» الذي كان رمزاً لانقسام العالم بين شرق شيوعي وغرب رأسمالي، فإذا بشعب ألمانيا يدمّر هذا الحائط ويستعيد وحدته الوطنية والسياسية، ولا يقبل بتدمير مقوّمات وحدته القومية.

أمّا تجربة جنوب إفريقيا، ففيها اتّضحت أهمية القيادة السليمة، وضرورة وضوح الهدف المركزي والإخلاص له، والإصرار على تحقيق الهدف وعلى الأسلوب السليم من أجل الوصول إليه.

فمن يرى في الأمَّة العربية الآن أمَّةً متخلّفة، فليقارنْ مع دولة جنوب إفريقيا التي أعلن قائد تحرّرها من النظام العنصري، نيلسون مانديلا، أنّ نسبة الأمّية في بلده كانت عند إسقاط النظام العنصري، تفوق الـ 70% من عدد السكان!

ومن يرى في اختلاف العرب «وحروبهم القبلية» مانعاً لوحدتهم المستقبلية أو لبناء مستقبل عربي أفضل، فليقارن أيضاً مع حال جنوب إفريقيا الذي لم يكن مجتمعاً منقسماً بين سودٍ وبيض فحسب، بل أيضاً بين قبائل سوداء متناحرة لعشرات السنين مع بعضها البعض.

ففي هذه النماذج المختلفة من تجارب العالم المعاصر، ما يعزّز الأمل بإمكان بناء مجتمع عربي أفضل، شرط الجمع بين حصيلة دروس هذه النماذج. إذ لا يمكن لأمّةٍ منقسمة على نفسها ولا تملك مشروعاً واحداً لنهضتها، أن تربح معارك قضاياها أو تحمل لشعوبها آمالاً بمستقبلٍ أفضل!

الجسد العربي يعاني الآن من عاهات ومن أمراض كثيرة، لكن اليأس وفقدان الأمل بمستقبل أفضل، وعدم العمل من أجل تحقيقه أيضاً، ليس هو الداء المنشود!.

ـــ مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن

Email