ثورة يونيو ومصر المحروسة

ت + ت - الحجم الطبيعي

نردد، نحن المصريين، دائماً، في سياق تفادي الكوارث الكبرى، أن «مصر محروسة»، أو أن «القاهرة محروسة»، وسواء تعلّق الأمر بمصر الدولة أو العاصمة، فإن هذا القول المأثور يُستدعى في وعي المصريين وعلى ألسنتهم في المناسبات الجسام، وكأنه جزء من معتقدات المصريين وثقافتهم.

وبصرف النظر عن التفسيرات المختلفة التاريخية والجغرافية واللغوية والدينية التي تلقي الضوء على كيفية نشأة هذا التعبير، وما إذا كان يعود إلى القلعة والأسوار والأبواب التي تحرس القاهرة، أو البحار التي تطل عليها مصر من الشمال والشرق أو الصحراء من الغرب والصخور من الجنوب، أو أن مصر تضم مقامات آل البيت ومر بها العديد من الأنبياء والرسل، وأنها كنانة الله في أرضه، فإن هذا القول المأثور يكتسب رمزية خاصة في انتماء المصريين إلى عاصمتهم وبلدهم مهما كان الأصل اللغوي والتاريخي والديني والجغرافي الذي يفسر شيوع هذا التعبير.

ومع ذلك، فإن هذا التعبير يصح أكثر- فضلاً عن التفسيرات السابقة-، بجهد المصريين وعرقهم وسواعدهم التي صنعت فجر الضمير وأول دولة مركزية في التاريخ القديم، وأكبر حضارة لا يزال أسرار الكثير من معالمها في رحم الغيب، فالمصريون بناة حضارة وصانعو عمران، وينشدون الاستقرار، ومصر حافظت على تماسكها ووحدتها عبر العصور رغم ما ألمّ بها من محن الغزو والعدوان.

يتشارك المصريون في الاعتقاد بأن بلدهم وعاصمتهم «محروسة» ومحمية ومحصنة، وبمناسبة ثورة المصريين في الثلاثين من يونيو عام 2013، اكتسب لدي هذا التعبير مصداقية أكبر، وأصبح تفسيره أكثر وضوحاً عن ذي قبل، وبالذات التفسير الذي يربطه بقدرة المصريين على تشخيص المخاطر التي تحيط ببلادهم.

قبل الثلاثين من يونيو عام 2013، كانت أشباح الفتنة تطل برأسها من كل حدب وصوب، وفي كل بقعة من أرض مصر، بين العودة إلى زمن مختلف مضى، وبين المضي في طريق النهضة والحداثة ومتطلبات العصر، بين الانعزال والانكفاء، وبين الاندماج والانفتاح على حضارة العالم، كان الانقسام هو الملمح الأبرز في خريطة مصر كما بدت خلال ذلك العام الأوحد من حكم المرشد والجماعة، التشكيك يسري كالنار في الهشيم في كل ما تعلّمه المصريون وخبروه وعايشوه، ويشكّل مرجعية لسلوكهم وتدينهم.

الاعتدال والوسطية والابتعاد عن الروح المذهبية والطائفية والسماحة في الاعتقاد والسلوك، كل ذلك لم يعد ميراثاً يختص به المصريون، بل أصبح أعباء يجب على المصريين التخلص منها، وأن يحل العنف والتعصب والانحياز والتطرف والأحادية محل السلم الأهلي والاعتدال والتوسط، الذي يشكّل إطاراً لمسيرة الشعب المصري وعبقريته في التوليف الحضاري والاقتباس والتفاعل وإعطاء الآخرين والأخذ عنهم في الوقت نفسه.

أعاد الثلاثين من يونيو في عام 2013 الطمأنينة إلى قلوب المصريين في استمرار نمط حياتهم ونمط تدينهم واعتقادهم، إلى حقيقته الأولي التي شكلوها بأنفسهم وخبرتهم وحكمتهم، والأهم من ذلك أن الثلاثين من يونيو قد أعاد الدولة إلى أهميتها ومكانتها في حياة المصريين، استعاد المصريون المواطنة والمساواة والحداثة السياسية والفكرية بديلاً للعودة إلى كهوف العصور الوسطى وظلامية الانحراف والشطط والأوهام.

يذهب العديد من المفكرين إلى أن الأفكار والمعتقدات تكتسب قوة مادية، وبمقدورها أن تؤدي دوراً مهماً في تغيير مجريات الواقع، عندما يؤمن بها الناس، وتنتقل فاعليتها من حيز الفكر إلى حيز الواقع، والأمر ذاته ينسحب على القول إن «مصر محروسة» أو أن «القاهرة محروسة»، أو أن مصر باعتبارها العاصمة محروسة، فهذا الاعتقاد من شأنه أن يدفع الناس إلى الذود عن كيانها ومواجهة المخاطر التي تحدق بها، بعيداً عن التواكلية والاعتمادية على الأقدار لتحرسها، ولقد اكتسب هذا القول في الثلاثين من يونيو عام 2013 معنى واقعياً وعملياً وفعلياً، إذ تكاتف المصريون من كل الفئات وكل الأجيال لمواجهة خطر تفكك الدولة والمجتمع، وانضمت القوات المسلحة لتؤيد وتؤازر مطالب المصريين المشروعة في وأد الفتنة والدولة المدنية، ووقف تسخير الدين للاستحواذ على السلطة والتحكم في رقاب العباد والبلاد، لكي تصبح مصر بحق محروسة بأبنائها وشعبها.

* كاتب ومحلل سياسي

Email