من «حرق المراحل» إلى «العودة إلى الماضي»

ت + ت - الحجم الطبيعي

انطلق الوعي الثوري العربي اليساري في صيغته الشيوعية والقومية، من تصور لا تاريخي، تعين في فكرة (حرق المراحل).لقد شكلت هذه الفكرة، أو هذا التصور، الأساس التبريري لنقل المجتمع العربي من مرحلة ما قبل الرأسمالية إلى الاشتراكية.

وتحولت إلى موضوع محاججة في أوساط المثقفين اليساريين، لا حول صحة الفكرة بذاتها، بل حول السبل المؤدية إلى تحقيقها.

وتعود هذه الفكرة إلى لينين، في تصوره لمستقبل روسيا ومهام ثورة أكتوبر 1917. فمن المعروف في الأدب الكلاسيكي الماركسي، بأن الاشتراكية مرحلة تعقب وصول الرأسمالية إلى أعلى مراحلها، التي تصدم بأزمة بنيوية لا سبيل للخروج منها، إلى بالانتقال إلى الاشتراكية.

لكن روسيا البلد المتخلف عن أوروبا، ذاك الزمان، شبه الرأسمالي وشبه الإقطاعي، لا تسمح بتصور الانتقال وفق الترسيمة الكلاسيكية الماركسية. فطرح لينين فكرة حرق المراحل. ومفادها أن ثورة أكتوبر ستنجز التقدم الرأسمالي من دون علاقات رأسمالية.

وهذا يعني أن ليس بالضرورة أن ننتظر روسيا لتنتصر فيها العلاقات الرأسمالية للانتقال إلى الاشتراكية، فالاشتراكية نفسها ستنجز الأساس المادي الذي أنجزته الرأسمالية.

لقد استهوت هذه الفكرة اليسار القومي واليسار الشيوعي، وعوملت بوصفها مسلّمة، ثم جاء التاريخ ليطيح بكل المسلّمات.

لكن فكرة حرق المراحل انتقلت بالعدوى إلى وعي كثيرين بالعالم، فصار كل عقل يطرح شكلاً من التقدم أو التغير، لا تتوافر له الشروط الموضوعية، يتحدث عن ضرورة حرق المراحل. حتى إنك لتسمع قائلاً يقول: لا بد من الذهاب إلى ما بعد الحداثة، دون المرور بالحداثة.

يمكن أن نطلق على وعي كهذا بالتاريخ، الوعي الإرادي، الوعي الذي يعتقد بأنه يمكن صياغة السيرورة التاريخية بالقفزات، وتجاوز منطق الشروط الموضوعية لعملية الانتقال من مرحلة تاريخية إلى أخرى. فالانتقال إلى الحداثة لايأتي بقرار.

ولا يمكن معاملة التاريخ بالسوط، كما يُعامل بغل حرون. ولكن يجب أن نضيف إلى هذه الفكرة، فكرة أخرى، ألا وهي أن الإرادة هي الأخرى لا تستطيع أن توقف مرحلة من التاريخ جاء أوانها. إنها تستطيع، عبر القمع والتعسف أن تؤخر ذلك، ولكنها إن فعلت، فإنها تخلق شروط الانفجار الذي لا يُحمد عقباه.

وفي مقابل هذا التصور اللا تاريخي للسيرورة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، ومع هزيمته واقعياً، ظهر التصور الأحمق، ألا وهو العودة إلى ما قبل التاريخ الراهن.

وهذا هو جوهر الوعي الديني الأصولي للتاريخ، والوعي الأيديولوجي الدكتاتوري العصبوي، وإذا كنّا في حرق المراحل تجاوزنا الأساس التاريخي الواقعي للتطور اللاحق، فإننا هنا أمام تحطيم السيرورة التاريخية ومنطقها. أجل، فنحن هنا لسنا أمام حرق المراحل، بل أمام حرق التاريخ وحرق الواقع.

الدكتاتوريات حطمت التطور الطبيعي للمجتمعات التي حكمتها، وأعاقت شروط بقاء الدولة التي كانت في لحظات الولادة والنمو. فأعادت تاريخ بلدان الحداثة العربية -مصر وسوريا والعراق، إلى ما قبل تاريخ الحداثة، كما أعاقت عملية الانتقال إلى الدولة في اليمن وليبيا. وحينما لفظ التاريخ هذه الأنظمة الديكتاتورية، أطلت برأسها القوى الظلامية، لتطرح البديل المستحيل، ألا وهو العودة بالتاريخ إلى الوراء.

يجب أن يعلم الجميع بأن الإرادة لا تستطيع أن تصنع تاريخاً على هواها، تستطيع أن تدفعه إلى الإمام، إذا كان قابلاً للدفع، لكنها ستقف عاجزة، سواء اختارت القفز إلى الأمام، أم اختارت القفز إلى الوراء.

* كاتب فلسطيني

 

Email