البرلمان الأوروبي وصعود الأطراف

ت + ت - الحجم الطبيعي

العنوان الأفضل لما جرى في انتخابات البرلمان الأوروبي، في تقديري، هو فراغ في الوسط السياسي وصعود للقوى التي كانت يوماً في الأطراف. وهو تحول مهم يعني أن مستقبل أوروبا لا يزال قلقاً لم يحدده بعد الناخبون.

ففي انتخابات البرلمان الأوروبي، انحسر التأييد لأحزاب يمين ويسار الوسط التقليدية لصالح أحزاب اليمين القومي والشعبوي من ناحية، وأحزاب الخضر والأحزاب الصغيرة المؤيدة للاتحاد الأوروبي من ناحية أخرى.

ورغم أن صعود أحزاب اليمين كان متوقعاً، كانت المفاجأة في صعود أحزاب الخضر بل والأحزاب الصغيرة المؤيدة للاتحاد الأوروبي. وانحسار التأييد لأحزاب الوسط التقليدية معناه أن تلك الأحزاب صارت تفقد ثقة الناخبين بشكل مطرد في انتخابات بعد الأخرى على امتداد القارة، كان آخرها انتخابات البرلمان الأوروبي.

فهي فشلت في إقناع الناخب بأن برامجها قادرة على حل مشكلاته، كل داخل بلاده. وفوز الأحزاب الصغيرة الداعمة للاتحاد الأوروبي معناه أن أحزاب الوسط التقليدية فشلت في إقناع الناخبين المؤيدين للاتحاد الأوروبي بأنها قادرة على صياغة مستقبل أفضل للقارة الأوروبية.

والصعود الذي حققته أحزاب اليمين الشعبوي والقومي كان متوقعاً. إلا أنه جاء أقل من التوقعات بدرجة كبيرة. فقد فازت تلك الأحزاب، على سبيل المثال، في فرنسا والمجر وبولندا، ولكنها لم تحقق فوزاً يذكر في دول مثل ألمانيا والنمسا والدنمارك. لكن لعل الصعود الأكثر أهمية لها كان في بريطانيا وإيطاليا.

وهو الذي كان مسؤولاً في الواقع عن رفع النسبة الكلية لمقاعدها بالبرلمان الأوروبي. لكن تلك النسبة الكلية تظل محدودة، فهي لم تتعد 5% بالمقارنة بما كانت عليه في آخر انتخابات 2014.

ورغم انحسار مقاعد يمين الوسط ويسار الوسط بالبرلمان، بحيث لم تعد تمتلك معاً الأغلبية المطلقة، إلا أنها تظل تتبوأ المرتبتين الأولى والثانية. بل جاءت أحزاب اليمين بالمرتبة الرابعة، حيث تسبقها أيضاً كتلة أحزاب الديمقراطية الليبرالية المؤيدة للاتحاد الأوروبي.

وليس من الواضح ما إذا كان بإمكان أحزاب اليمين القومي والشعبوي تكوين كتلة متماسكة داخل البرلمان الأوروبي. فرغم القواسم المشتركة بينها، إلا أنها العامل الجوهري الذي يجعل من الصعب توحدها هو أن برنامج كل منها يقوم على ضرورة تفوق بلاده على جيرانها، وهى معادلة صفرية تجعل التحالف عابر الحدود صعباً.

لكن نتائج الانتخابات كشفت أيضاً عن أن قضايا المناخ والبيئة تحتل أهمية كبرى لدى الناخب الأوروبي. فقد حققت أحزاب الخضر تقدماً كبيراً حتى وصل عدد مقاعدها إلى 70 (من أصل 751 مقعداً). وهو ما يرفع من إمكانية اتخاذ قرارات أكثر جدية في مجال سياسات البيئة والتغير المناخي. ومع التراجع الأمريكي الكبير في هذا الصدد، فالأرجح أن تتولى أوروبا موقع الريادة.

لكن انتخابات البرلمان الأوروبي حفلت أيضاً بالمؤشرات التي تدل على أن صعود أحزاب اليمين القومي والشعبوي وانحسار أحزاب الوسط لا تعني أن الناخب الأوروبي قد صار يرفض بشكل حاسم سياسات الاتحاد الأوروبي. فصعود كتلة الليبراليين الديمقراطيين الداعمة للاتحاد الأوروبي، ومعها أحزاب الخضر، مؤشر يدل على أن الناخب الأوروبي ضاق ذرعاً بالأحزاب التقليدية الحاكمة، لا بالفكرة الأوروبية ذاتها، الأمر الذي أحدث فراغاً في الوسط السياسي وصعوداً للقوى التي كانت يوماً في الأطراف.

وفراغ الوسط السياسي معناه أن مستقبل أوروبا لم يحسم بعد، بل وصار مفتوحاً على كل الاحتمالات. فالأزمة الأهم في أوروبا هي أزمة تياري يمين الوسط ويسار الوسط التقليدية. وما لم تفلح أحزاب التيارين في استعادة عافيتها وتقديم رؤى وسياسات تكسبها من جديد ثقة الناخبين، فإن فراغ الوسط السياسي سيصبح محل منافسة شرسة بين قوى اليمين القومي والشعبوي المشككة في جدوى الاتحاد الأوروبي من ناحية، وبين قوى أخرى، صغيرة وداعمة لوحدة أوروبا في آن، ولكن من شأن صعودها إعادة ترتيب توازنات القوى داخل كل دولة وفي الاتحاد الأوروبي نفسه على نحو جديد تماماً.

Email