هل نجحت بكين في اختراق القارة العجوز؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد أن نجح التنين الصيني في اختراق أفريقيا ومن قبلها بعض الدول الآسيوية، مد أبصاره مؤخراً نحو القارة الأوروبية العجوز عبر طرق بوابتها الرخوة المتمثلة في إيطاليا، التي يعاني اقتصادها ركوداً يصعب تجاوزه.

فالزيارة التي قام بها الزعيم الصيني «شي جيبينغ» إلى روما في أواخر مارس المنصرم، تخللها توقيع مذكرة تفاهم اقتصادية مع إيطاليا، وهو ما جعل الأخيرة أول دولة في مجموعة الدول الصناعية السبع وأول دولة محورية في الاتحاد الأوروبي تنضم إلى فكرة التكامل الاقتصادي الأوروبي الآسيوي التي تروج لها بكين بحماس.

وعلى الرغم من أن الاتفاق أثار زوبعة من التعليقات والمخاوف لدى شركاء إيطاليا الأوروبيين وحليفتها الأمريكية، فإن الصينيين احتفلوا بنجاحهم في الحصول على شريك أوروبي كبير لا يقارن بشركاء أوروبيين صغار مثل اليونان والبرتغال وبلغاريا والمجر التي استطاعت بكين استغلال ظروفهم الاقتصادية الصعبة أثناء أزمة 2008 المالية العالمية للنفاذ إلى اقتصاداتهم.

كانت الصين فيما مضى تعتمد في اختراق الدول على أيديولوجيتها الماوية البائدة التي كانت تلقى هوساً لدى الشباب المتحمس القابل للأدلجة وبعض الأنظمة الراديكالية، لكن زعيمها الحالي الطامح لوضع بصمته الخاصة على صين القرن 21 يدرك بذكاء الإنسان الصيني المشهود، أن الزمن ليس زمن الأيديولوجيات وحروب التحرير الشعبية والشعارات المناهضة للرأسمالية، وإنما زمن الاقتصاد والمشاريع الكبرى من تلك التي تربط القارات والأمم بمصالح مشتركة.

ومن هنا طرحت بكين مبادراتها الطموحة، وراحت تروج لها إعلامياً ودبلوماسياً عبر المحيطات والقارات، عارضة القروض الهائلة والصفقات الاستثمارية الضخمة، ولاسيما في قطاع البنى التحتية، خصوصاً مع امتلاكها فائضاً مالياً هائلاً بإمكانها تسخيره لإنجاح مبادرتها (المتوقع أن تخصص المصارف الصينية الشريكة للدولة بحلول سنة 2027 مبلغ 1.3 تريليون دولار بشروط تفضيلية للبلدان الراغبة في المشاركة في مشاريع مبادراتها).

كان الأمل الذي راود القيادة الصينية هو تشكيل جبهة موحدة مع الأوروبيين ضد سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الحمائية وما راح الأخير يفرضه من ضغوط، وهي سياسات وضغوط بقدر ما أزعجت الصينيين فإنها أزعجت أيضاً الحليف الأوروبي التقليدي للولايات المتحدة.

لكن دول الاتحاد الأوروبي الكبيرة سرعان ما تنبهت إلى أن بكين تحاول اختراق القارة العجوز. وبالمثل تيقنت واشنطن.

فجاءت الضغوط المتتالية من برلين وباريس وواشنطن وبروكسل (عاصمة الاتحاد الأوروبي) لكبح جماح اندفاع إيطاليا نحو الصين دون التنسيق مع شريكاتها الأوروبيات، خصوصاً في أعقاب ما قاله الزعيم الصيني الزائر أمام مستضيفيه من أن زيارته لإيطاليا واستعداد الأخيرة للانخراط في مبادرتها يحمل مغزى كبيراً.

ولعله بهذا كان يشير إلى جملة من الأمور، منها أن إيطاليا هي أول أعضاء مجموعة السبع التي تدعم مبادرة بكين، ومنها أنه أول زعيم صيني يقتحم بنجاح أسوار روما من بعد زيارة سلفيه «هو جينتاو» في 2012 و«جيانغ زيمين» في 1999، ومنها ما تمثله إيطاليا من قوة اقتصادية (ثالث اقتصاد أوروبي بعد ألمانيا وفرنسا) ذات موانئ استراتيجية مطلة على البحر الأبيض.

ومع أن رئيس الحكومة الإيطالية جوزيبي كونتي حاول تفادي غضب شركاء بلاده الأوروبيين والحليف الأمريكي بالقول إن التنسيق مع الصين يجري في إطار الاستراتيجية الموحدة للاتحاد الأوروبي وفي ظل احترام الصداقة القائمة مع واشنطن، فإن كلامه لم يقنع أحداً، الأمر الذي حدا بواشنطن وبروكسل لممارسة المزيد من الضغوط على روما كي تتراجع عن بعض ما اتفقت عليه مع بكين، وخصوصاً لجهة التعاون في مجال الاتصالات الذي يثير حساسية كبيرة عند الأمريكيين خشية أن يكون ذلك باباً تنفذ منه بكين للتجسس على استراتيجيات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وحلف الناتو باستخدام تقنيات صينية خاصة.

لقد توقع الصينيون أن الانشقاقات الحاصلة اليوم في الجسد الأوروبي ما بين تمرد ذوي السترات الصفراء في فرنسا، ومشكلة المهاجرين في ألمانيا، وانقسام الحكومة والشعب في بريطانيا حول «بريكست»، يشكل فرصة ذهبية لهم لاختراق دول القارة العجوز الكبرى مثلما عملوا بنجاح في اختراقهم لدول القارة الصغرى، لكن تقديراتهم، التي بنيت على أن الاتحاد الأوروبي يمر بأوقات عصيبة، وبالتالي لا يملك الكثير من الأدوات السياسية لفرض تدابير صارمة ضد الدول الأوروبية المتعاونة مع الصين كانت خاطئة.

لقد قيل إن تمرد روما مجرد أداة ضغط على الاتحاد الأوروبي لمراعاة مكانة إيطاليا كعضو مؤسس وقطب صناعي، والتعامل معها بصورة أكثر مرونة بدلاً من مواجهتها بعقوبات بسبب عجز ميزانيتها وتعثر بنوكها، أو التعامل معها ببرود بسبب انتصار تحالفها الشعبوي ووصوله للسلطة سنة 2018.

Email