تناقضات الانتخابات الإسبانية

ت + ت - الحجم الطبيعي

عكست الانتخابات الإسبانية التناقضات الواسعة نفسها التي تعيشها القارة الأوروبية ككل. ففي الوقت الذي فاز فيه الحزب الاشتراكي فوزاً واضحاً على أحزاب اليمين، وفق أجندة سياسية وانتخابية تقوم على العدل الاجتماعي، مثلت انتخابات الأسبوع الماضي المرة الأولى التي سيدخل بمقتضاها أحد أحزاب اليمين المتطرف البرلمان الإسباني منذ أربعة عقود.

فبينما صار الحزب الاشتراكي مؤهلاً لتشكيل حكومة من ائتلاف اليسار، فاز فوكس، حزب اليمين المتطرف، بحوالي 10% من الأصوات بما يضمن له 24 مقعداً بالبرلمان الإسباني، فصارت تلك المرة الأولى التي يفوز فيها اليمين المتطرف التحول نحو الديمقراطية عام 1975 عقب وفاة الجنرال فرانشيسكو فرانكو.

والحقيقة أن أهمية نتائج الانتخابات الإسبانية لا تقتصر على ما تعنيه بالنسبة لطبيعة الحكومة الجديدة التي ستتشكل وإنما تمتد لتلقي الضوء على حالة الغليان الاجتماعي الذي لا تعيشه إسبانيا وحدها، وإنما أوروبا والعالم، وهو غليان تختلف أسبابه المباشرة من حالة لأخرى ولكنه يفرز نتائج متشابهة.

ففي الانتخابات الثالثة في أقل من أربع سنوات بإسبانيا، نجح الحزب الاشتراكي في أن يحقق فوزاً مريحاً، تفوق به على أحزاب اليمين بما فيها حزب المحافظين، القوي تقليدياً. فقد حصل الحزب الاشتراكي على ما يقرب من 30% من الأصوات، بما يؤهله لتشكيل الحكومة الائتلافية الجديدة والتي ستقوم على الأرجح مع حزب بوديماس اليساري.

لكن الحزب الاشتراكي، بحصوله على 123 مقعداً من أصل 350 مقعداً بالبرلمان سيحتاج، لتشكيل حكومة أغلبية، لما هو أكثر من مقاعد حزب بوديماس التي تبلغ 42 مقعداً فقط. لكن ليس من الواضح حتى الآن إلى أي الأحزاب سيلجأ سانشيز للحصول على المقاعد الأحد عشر المتبقية.

فهو إما يلجأ للتحالف مع الأحزاب الكاتالونية التي كانت المسؤولة أصلاً عن هزيمته البرلمانية والدعوة للانتخابات، أو يفضل بديلاً ثانياً، هو التفاوض مع عدد من الأحزاب الصغيرة. فسانشيز كان قد دعا للانتخابات الأخيرة بعد ثمانية أشهر فقط من توليه رئاسة الوزراء، عندما مني مشروع قانون الميزانية الذي قدمته حكومته للبرلمان بالهزيمة.

وقتها عرض الحزبان الكاتالونيان الانفصاليان الموافقة على الميزانية مقابل الحصول على حق تقرير المصير لكاتالونيا، فرفض سانشيز مطلبهما ودعا للانتخابات العامة.

غير أن الأهم من مسألة تشكيل الحكومة هو أن نتائج الانتخابات تعكس بوضوح حجم القلق الذي يعتري الناخبين الإسبان.

فبيدرو سانشيز كان قد تولى رئاسة الوزراء بعد استقالة رئيس الوزراء المحافظ ماريانو راجوي، عشية تصويت البرلمان بسحب الثقة من حكومته. ففضلاً عن فضائح الفساد، فإن الطريقة التي أدار بها حزب المحافظين أزمة الاستفتاء الذي أجرته كاتالونيا أدى لصعود مشاعر القومية الإسبانية عموماً.

وقد كان أداء حزب المحافظين أحد أهم أسباب هجرة الناخبين له الذين يرجع لأصواتهم الفضل في الصعود القوي لحزب فوكس اليميني المتطرف، الذي قامت أجندته المعلنة على «حماية إسبانيا من أعدائها»، الذين من بينهم الحركة النسوية والنخب الليبرالية والمسلمين، وخاض الحزب حملة انتخابية بخطاب بالغ الخطورة في عدائه لفئات عدة بالمجتمع.

وقد مثّل صعود فوكس لنسبة 10% من الأصوات تحولاً راديكالياً، حيث لم يحصل الحزب في انتخابات 2016 سوى على حوالي 0.2% فقط من الأصوات.

وكان لافتاً بعد إعلان نتائج الانتخابات الأخيرة ما قاله رئيس الحزب، سانتياجو أباسكال، الذي أشار إلى أنه حقق تعهده الذي قطعه على نفسه في الحملة الانتخابية «بإعادة غزو إسبانيا» في إشارة لإنهاء الحكم الإسلامي وطرد اليهود في القرن الخامس عشر.

غير أن المفارقة هي أن خطاب فوكس الخطير كان مسؤولاً عن قلق قطاعات واسعة، فارتفعت نسبة التصويت في الانتخابات حتى وصلت إلى 75%.

لكن ما لا يقل أهمية عن صعود اليمين المتطرف كان الأجندة السياسية التي فاز على أساسها الحزب الاشتراكي. وبيدرو سانشيز، بالمناسبة، كان من أوائل الزعماء الدوليين الذين أيدوا مشروع نواب الحزب الديمقراطي الأمريكي في بناء اقتصاد «أخضر»، أي يقلل من الانبعاثات الحرارية.

وهو خاض الحملة الانتخابية بأجندة واضحة تدعو لتعبئة المجتمع المدني والهيئات الحكومية للدفع نحو اقتصاد أخضر يتم من خلاله خلق وظائف جديدة.

كما كانت أجندة سانشيز واضحة في تعهدها بالعدل الاجتماعي، عبر المزيد من رفع الحد الأدنى للأجور وزيادة الضرائب على الأثرياء. وكان لافتاً أن رئيس الوزراء الذي رفع الحد الأدنى للأجور بالفعل بنسبة 22% أعيد انتخاب حزبه ليشكل الحكومة.

ورغم أن نتائج الانتخابات الإسبانية قد تبدو متناقضة، حيث مثلت صعوداً للحزب الاشتراكي وصعوداً في الوقت ذاته لليمين المتطرف، إلا أن رسالة الناخبين في تقديري كانت واحدة.

فهي عكست قلقاً من التطورات الاجتماعية والاقتصادية الهائلة والتي يعبر عنها البعض بالانصياع للخوف والتصويت لقوى رجعية تدعو لإقصاء قطاعات اجتماعية واسعة، بينما يعبر عنها ناخبون آخرون بالمطالبة الواضحة بالعدل الاجتماعي.

 

 

Email