مآسٍ بشرية باسم «العلم»

ت + ت - الحجم الطبيعي

اعتذار الحكومة والبرلمان اليابانيين، الأسبوع الماضي، عن صفحة تاريخية مؤلمة لن يكون نهاية المطاف ولكنه يمثل علامة مهمة على طريق تصحيح مظالم تاريخية طالما فرضت المعاناة علي البشر باسم «العلم».

فقد وافق نواب «الدايت» الياباني على مشروع قانون يقضي بدفع تعويضات للمواطنين اليابانيين الذين كانوا قد أجبروا على إجراء عمليات جراحية تحرمهم من الإنجاب مدى الحياة لأنهم يعانون من مرض أو إعاقة. وكانت تلك العمليات الجراحية قد فرضت فرضاً على الآلاف بموجب قانون كان قد صدر عام 1948 وظل سارياً حتى تم تعديله عام 1996.

فالقانون الذي صدر بعنوان «قانون تحسين النسل وحمايته» كان يعتمد على ما كان يعرف في حقبة تاريخية ماضية باسم «علم اليوجينية» أو علم تحسين النسل البشري. وكان القانون الياباني، بدعوى تحسين النسل، يجبر المواطنين إجباراً على إجراء تلك العمليات الجراحية حتى لو كانت الإعاقة مجرد ضعف السمع أو الإبصار، لا فقط الأمراض الوراثية أو الذهنية.

وفي عام 1996 تم تعديل القانون على نحو ألغي الإجبارية في الخضوع لتلك العمليات الجراحية. لكن الحكومة، وقتها، اكتفت بذلك القدر من تصحيح الخطأ التاريخي، إلى أن قام عدد لا بأس به من الضحايا بمقاضاة الحكومة اليابانية مؤخراً، فتقدم شينزو آبي، رئيس الوزراء، بل والنواب باعتذار لضحايا تلك العمليات على ما لحق بهم، وصدر القانون الجديد الذي أقر لكل ضحية تعويضاً قدره 3.2 ملايين ين ياباني.

والحقيقة أن ما كان يطلق عليه «علم اليوجينية»، تم دحضه لاحقاً واعتباره ليس بعلم من الأساس. لكن اليوجينية كانت حركة عالمية ذات أصول لا تخلو من العنصرية، اختلطت وقتها بالفوقية الطبقية وكل أشكال السعي للتفوق المقيت بين البشر. أول من ابتدع ذلك «العلم» كان عالماً بريطانياً في القرن التاسع عشر يدعى فرانسيس جالتون، وكان ذا صلة قرابة بالمناسبة بتشارلز داروين.

وكانت فكرة جالتون الرئيسية هي الداروينية الاجتماعية والبقاء للأصلح. حيث قدم أفكاراً تقوم على نظام يساعد ما أسماه «بالأعراق الأفضل» على البقاء، بالمقارنة بتلك «غير المناسبة» أو التي تعاني من علل، بغض النظر عما اعتبره «عللاً».

وهي أفكار كانت موجودة أصلاً في علوم الحيوان وتحسين السلالات الحيوانية ثم انتقلت للتعامل مع البشر بالمنطق نفسه. وقد تنامى الاهتمام بتلك الأفكار في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين وظلت تحظى برواج واسع حتى صارت صرعة.

واليابان لم تكن الدولة الوحيدة التي استخدمت «اليوجينية» في قوانينها. فقد وجدت تلك الأفكار طريقها للقوانين في الولايات المتحدة والسويد وألمانيا مثلاً. ففي الولايات المتحدة، مثلاً، كانت قوة أفكار الحركة اليوجينية مسؤولة عن واحد من أسوأ قوانين الهجرة في التاريخ الأمريكي، الذي صدر في عام 1924.

لكن تلك الفترة في أمريكا شهدت أيضا محاولات لشيطنة قطاعات كاملة من المهاجرين باعتبار أنهم «علمياً» يحملون خصائص سيئة من شأنها أن «تهدد الحضارة الأمريكية»، إذا ما تزوجوا بالأمريكيين. وكان ممن تم وصمهم، زوراً وباسم العلم، بتلك الخصائص كل من اليونانيين والإيطاليين بل وكل مهاجري شرق أوروبا.

وخلال تلك الفترة أيضا صدرت قوانين في عدة ولايات كان من بينها فيرجينيا ومتشغان وكاليفورنيا تنص على إجبار الآلاف على عمليات العقم. بل إن المحكمة العليا الأمريكية نفسها اعتبرت في حكم شهير لها في عام 1927 أن قانون ولاية فيرجينا ذاك لا يتنافى مع الدستور الأمريكي.

وتقول الكتابات التي أرّخت لتلك الفترة أن معارض كانت قد راجت وقتها يتم فيها «عرض» الأسر والتنافس فيما بينها لاختيار أفضلها نسلاً. ولم تكن كل تلك الأفكار بعيدة عن إضفاء الشرعية على أفكار التفوق العنصري للبيض على السود بل وأفكار التفوق الطبقي، رغم إصرار الأمريكيين على عدم وجود طبقية في بلادهم.

وقد ظلت كل تلك الأفكار تلقى رواجاً ليس فقط بأمريكا وإنما في مناطق أخرى من العالم الغربي. ورغم تزامن كل ذلك مع وجود حركة مناهضة لتلك الأفكار، إلا أنها لم تكن حركة قوية.

وكانت اللحظة الفاصلة هي الوصول بتلك الأفكار المتطرفة لمستويات غير مسبوقة في عنصريتها، حين لم تسع ألمانيا النازية فقط لإجبار الناس على عمليات العقم، وإنما سعت لقتل وحرق قطاعات بأكملها كما فعلت في محارق اليهود.

عندئذ فقط، على ما يبدو، بدأ العالم ينتبه لخطورة «اليوجينية» وقويت الحركة المناهضة لها، فدحضت أفكارها وتم اعتبارها ليست علماً من أصله. وهو ما تم بعده إلغاء قوانين ألمانيا والسويد واعتذار حكومتيهما وتعويض الضحايا هناك.

ورغم أن اعتذار الحكومة اليابانية يطوي صفحة بائسة في تاريخ اليابان، إلا أن اليوجينية، كحركة عالمية، لن تكون، في تقديري، المرة الأخيرة التي يتم فيها باسم «العلم» تعريض الإنسانية لمآس محزنة.

* كاتبة مصرية

Email