عطاء لن يتوقف

ت + ت - الحجم الطبيعي

في كتابه «قصتي»؛ يقدّم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي «رعاه الله»، عشر وصايا للإدارة الحكومية الرشيدة، ويقول في وصيّته الثانية: «لا تعبد الكرسي».

إنّها دون شك وصية تصلح لكلّ زمان ومكان في هذا العالم، لكلّ شخص ينظر إلى الكرسي على أنّه هدف وغاية بحدّ ذاته، وما أكثر هؤلاء الأشخاص، فهم موجودون في جميع درجات السلّم الوظيفي من أدناها إلى أعلاها، وكلّما تمسّك الإداريّ أو المسؤول بكرّسيه كلّما عرّض المنصب الذي يشغله إلى الترهّل، لأنّ المهن على اختلاف أنواعها تحتاج إلى تجديد الدماء، وإلى بثّ الحيوية وروح الشباب فيها.

كثيرون ممن تمسّكوا بمناصبهم وعبدوا الكرسيّ سبّبوا الدمار لأوطان بأكملها، وانتهى بهم المطاف صوراً مشوَّهَةً على كتب التاريخ، بينما ترجّل آخرون في الوقت المناسب على الرغم من عظمة إنجازاتهم ونجاحهم، ويكفي أن نشير هنا إلى صانع نهضة سنغافورة (لي كوان يو) الذي انسحب من منصبه بعد أن أتمّ مهمّته بنجاح لافت في بناء دولة مستقلة وناجحة، ليتيح المجال لدماء جديدة لكي تشارك في بناء هذه الدولة.

ولكن هل الترجّل عن الكرسي يعني التوقّف عن العطاء؟ وهل التقاعد أو الاستقالة أو الانتقال إلى منصب آخر تعني التخلّي عن واجب المساهمة في تطوير الوطن والمجتمع؟.

بالتأكيد لا.. ولاسيما بالنسبة لمن شغل مركزاً مهنياً يلائم شغفه، فمنحه جزءاً من روحه وترك فيه بصمة لا يمحوها الزمن.

التغيير صعب وغير مريح، وترك المكان الذي عاش فيه الإنسان عقوداً من الزمن ليس بالأمر السهل، فكيف يترك الإنسان جزءاً من حياته وإنجازاته وعطاءاته؟، ولكن سُنّة الحياة تقتضي التغيير والتجديد، ومن الطبيعي أن يمضي جيل ليسلّم الراية للجيل اللاحق، ومن الجميل أن ينتقل الإنسان إلى مكان آخر يستطيع من خلاله أن يضيف شيئاً جديداً لخبرته، وأن يسهم في تقديم المزيد من العطاء من موقع جديد.

ومن الجميل أيضاً، أن يقدّم الإنسان قدوة حسنة ومثالاً يحتذى عندما يترجّل بعد أن أتمّ مهمّته وصنع فريق عمل ناجحاً ومؤهّلاً ومتميزاً يفتخر به، علّمه واستثمر فيه ومنحه خلاصة معرفته وخبرته، ليستطيع أن يترك منصبه وهو على ثقة بأن فريق عمله سيتمّ المهمّة ويتحمّل المسؤولية بجدارة، ليقود المرحلة المقبلة من التطوير مستمرّاً على النهج ذاته وبنفس الروح المفعمة بالنشاط والعطاء والحيوية.

لقد قضيت بالعمل في مجال التميز الحكومي 23 سنة غالية من العمر، وسيبقى التميّز شغفي وديدني، ولن أكون بعيداً عنه، فقد بنيت حياتي المهنيّة على التميّز، وأفتخر أنني لطالما كنت جندياً مخلصاً من جنود الإمارات والقيادة الملهمة التي حرصت على دعم ورعاية الكفاءات العلمية والمهنية، فحفزتنا واستثمرت طاقاتنا وأعطتنا الفرصة الكاملة لنقدم ما عندنا، وننجح في أن نكون جزءاً من مسيرة التطوير، وأن نكون جنوداً مخلصين وملتزمين في تحقيق التميز نهجاً وممارسة.

الإنسان الذي فُطِر على العطاء لا يستطيع التوقف عن عطائه، وسيستمرّ دائماً في المساهمة الفعالة في خدمة وطنه ومجتمعه حتى من خارج المنصب أو الوظيفة، ولا يوجد وظيفة قادرة على تأطير هذا العطاء وحبسه أو ربطه بكرسيّ أو منصب، لأنّ الإنسان المعطاء لا تتوقف حدوده عند باب مكتب، وإنّما يسافر دوماً باتجاه المدى الأرحب، ليفتح آفاقاً جديدة من العطاء اللامحدود، يسير باتجاهها متسلّحاً بحبّ الوطن وقادة الوطن، وبثقة عالية بالنجاح أينما حلّ وفي أي مركز أو موقع.

Email