الطبقية والعنصرية وسياسة أمريكا الخارجية

ت + ت - الحجم الطبيعي

من المفارقات الجديرة بالتأمل في الثقافة السياسية الأمريكية العداء الشديد للشيوعية، زمن الحرب الباردة ثم للاشتراكية حالياً، لم يمنع الولايات المتحدة من تقديم نفسها بشكل هو في جوهره اليوتوبيا الشيوعية.

فاليوتوبيا، أو المجتمع المثالي، في الأيديولوجية الشيوعية، والتي تتحقق بعد ثورة الطبقة العاملة ضد الطبقة البرجوازية هي المجتمع اللا طبقي.

فبعد ثورة البروليتاريا، أي الطبقة العاملة، التي تنتهي بهيمنتها على المجتمع، تتلاشى مع الوقت الطبقة البرجوازية فلا يصبح هناك سوى البروليتاريا، أي طبقة واحدة، وهو ما يعني نهاية الطبقية، وهنا فقط تتحقق اليوتوبيا الشيوعية. فالمجتمع الذي لا توجد به طبقات، فيخلو من الاستغلال، هو المجتمع الشيوعي.

المفارقة هي أن الحكاية الكبرى التي تحكيها أمريكا عن نفسها هي أنها مجتمع لا طبقي منذ نشأته وحتى اليوم، بما يميزها عن أوروبا ومجتمعاتها.

فالمهاجرون الأوائل، حسب الحكاية، جاؤوا إلى «الأرض الجديدة» من دول فيها نظام إقطاعي وطبقات متعددة، ولكنهم بنوا مجتمعاً بلا طبقات، لأن الأرض الشاسعة لبلدهم الجديد سمحت بذلك.

فلماذا يظل فرد بعينه يقطن منطقة يظل فيها من طبقة دنيا، بينما هو قادر على الانتقال لغيرها في هذا «البراح الواسع الذي لا يسكنه أحد»، فيكون بجهده قادراً على الكسب والتفرد؟ وفكرة الحلم الأمريكي ذاتها قائمة، هي الأخرى، في جوهرها على أن المجتمع الأمريكي لا يعرف الطبقات الاجتماعية.

فالحراك الاجتماعي هو جوهر الحلم. فأيا كانت أصولك المتواضعة، فإنك قادر على الوصول لأعلى السلم الاجتماعي دون أي قيود على الإطلاق، ووفق وسيلة واحدة فقط هي جهدك وكفاءتك.

وهناك تباين بالقطع بين تلك الحكاية وبين الواقع. فالولايات المتحدة منذ نشأتها الأولى كانت طبقية بامتياز ويظل بها نظام طبقي حتى اليوم. ولا يمكن الوقوف على ذلك الواقع بالنظر لأمريكا بعد كتابة دستورها، في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وإنما بالرجوع لبداية الاستعمار الأوروبي للأمريكيتين.

فاستراتيجية الامبراطورية البريطانية، التي هيمنت، كانت تقوم على التخلص من فقراء بريطانيا، وأطفالها المشردين في الشوارع، وكل الذين اعتبرتهم «بلا منفعة» في بريطانيا نفسها، عبر دفعهم لاستيطان ما صار يعرف لاحقاً بالولايات المتحدة.

وقد هاجر من بريطانيا أيضا من ناؤوا بأعباء الديون من حرفيين وغيرهم. وكان من بينهم أيضا من فضلوا التخلي عن حريتهم مقابل فرص عمل، فهاجروا للعمل كخدم وفق عقود تسلبهم حريتهم لفترة معلومة. وقد عملت بريطانيا على قيادة المستعمرات الجديدة عبر نظام شبه عسكري يقوم على إجبار هؤلاء إجباراً على العمل، من خلال قيادات عسكرية صارمة.

وكان الهدف، في تلك المستعمرات، طبعاً هو جلب فوائد للبلد المستعمر، أي بريطانيا في هذه الحالة. فكان المطلوب مثلاً البحث عن معادن علي رأسها الذهب، ليتم إرسالها للوطن الأم.

وفي القرن السادس عشر، لم تكن أمريكا بالنسبة لأولئك المهاجرين من الفقراء أرضاً للفرص والأحلام، كما تقول الأسطورة، وإنما كانت أرضاً لاقوا فيها المجاعات والفقر والعوز.

وقد خلقت تلك المنظومة كلها بالضرورة نظاماً طبقياً بامتياز، تم تكريسه عبر استجلاب الأفارقة، في أغلال للعمل كعبيد، وعبر الفجوة الواسعة في القدرة علي تملك الأراضي، التي لم تكن مساحاتها الشاسعة متاحة للجميع على قدم المساواة ولا وفق عملهم الشاق. هذا فضلاً عن الحرب بالغة الشراسة التي شنتها بريطانيا، ومن بعدها المستوطنون أنفسهم، ضد أصحاب الأرض الأصليين.

ومع مرور الوقت، صار الخدم الذين عملوا بعقود جائرة ولم يمتلكوا الأرض هم فقراء أمريكا البيض الذين ورّثوا فقرهم لأبنائهم وصاروا يعرفون في أمريكا بتعبير بالغ الفجاجة هو «البيض الحثالة». كما صارت العنصرية أحد أهم وسائل إعادة إنتاج الطبقية باستمرار بالمجتمع الأمريكي ضد غير البيض عموماً والسود على وجه الخصوص، بينما ظل السكان الأصليون بمعنى من المعاني، على رأس المهمشين في ذلك المجتمع.

بعبارة أخرى، فإن غياب الطبقات في الولايات المتحدة من أهم الأساطير التي لا تزال ترددها أمريكا عن نفسها حتى بالكتب المدرسية.

والطريف في الأمر أنه رغم نفي وجود طبقية بأمريكا، فإن أمريكا الرسمية والإعلام والسياسيين وغيرهم لا يكفون عن الحديث عن «الطبقة الوسطى»، الأمر الذي لابد وأن يعني بالضرورة وجود طبقة دنيا.

والحكاية الكبرى، أو الأسطورة الأمريكية، مثلها مثل كل أساطير الثقافات العالمية، تبعد كثيراً عن الواقع.

لكن أسطورة اللا طبقية تحديداً، والتي يتعلمها الأمريكيون منذ الصغر، تظل في اللاوعي حتى مع وجود ما ينفيها في الواقع المعاش، فتكرس لدى المواطن الأمريكي فكرة «الاستثنائية» الأمريكية، والتي هي من أكثر الأفكار خطورة في صناعة السياسة الخارجية الأمريكية.

فهي تسمح بقبول الأمريكيين، بل ودعمهم أحياناً، لعدم خضوع بلادهم للقانون الدولي أو لأي ما تخضع له باقي دول العالم.

Email