لا تشرح الدرس يا أستاذ

ت + ت - الحجم الطبيعي

صغاراً كنا، نجلس على مقاعد دراستنا الصغيرة، في فصول لم تعرف أجهزة التكييف بعد، نخرج كتب التاريخ من أدراج طاولاتنا ونضعها فوقها، نفتحها على درس التاريخ. أمام السبورة يقف الأستاذ شفيق، يكتب اليوم والتاريخ الهجري على الجانب الأيمن من السبورة والميلادي على الجانب الأيسر منها، وتحت التاريخ، في وسط السبورة، يكتب عنوان درس اليوم: «وعد بلفور». نسمع من الأستاذ شفيق، القادم من فلسطين المحتلة، أن وعد بلفور باطل.

نسأله ببراءة الصغار: ما هو وعد بلفور هذا، ومن الذين وعدهم، وبماذا وعدهم؟ يحاول الأستاذ شفيق أن يلخص لنا القصة بما يناسب عقولنا الصغيرة. نفهم منه أن وعد بلفور هو إعلان أصدرته الحكومة البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية، تتعهد فيه بإقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين المحتلة. ومن هو بلفور هذا يا أستاذ شفيق؟ إنه السير أرثر جيمس بلفور، وزيرخارجية المملكة المتحدة، الذي أرسل رسالة بتاريخ 2 نوفمبر 1917 مُوَجَّهَةٌ إلى اللورد ليونيل دي روتشيلد، أحد أبرز أوجه المجتمع اليهودي البريطاني، لنقلها إلى الاتحاد الصهيوني لبريطانيا العُظمى وإيرلندا، يتعهد فيها بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.

تمر على هذا الدرس سنوات كثيرة، نكبر خلالها، ويصبح وعد بلفور جزءاً من الذاكرة المطبوعة، تمضي بنا دروب الحياة إلى طرق مختلفة، يختفى خلالها الأستاذ شفيق من حياتنا، لكنه لا يختفي من ذاكرتنا، فقد كان درس التاريخ واحداً من الدروس المحببة إلى نفوسنا، وكان درس «وعد بلفور» واحداً من أكثر الدروس التصاقاً بالذاكرة. لماذا كان «وعد بلفور» من الدروس المقررة علينا في مادة التاريخ؟ يُسأل عن هذا واضعو المناهج التعليمية في تلك الأيام.

لماذا كان مدرس التاريخ وقتها فلسطينياً؟ سؤال من الأسئلة التي يجب أن لا نبحث لها عن إجابة، مثله مثل أسئلة كثيرة تكبر مع الزمن دون إجابات محددة. ومثلما الأسئلة تكثر كانت النكبات تكبر، والنكسات تكرّ على الأمة التي ظلت تشجب وتندد وتستنكر، تعتبر الوعد هدية ممن لا يملك لمن لا يستحق، حتى يأتي على الأمة زمن أكثر رداءة من زمن بلفور، ونرى من يمنح الهدايا تلو الهدايا، فنتمنى لو عدنا صغارا، نجلس على مقاعد الدراسة الصغيرة، في تلك الفصول البسيطة، نخرج كتب التاريخ من أدراج طاولاتنا، نفتحها فلا نجد فيها دروس النكسة، وضياع الضفة وسيناء والقدس والجولان. نتمنى لو أن الأستاذ شفيق يعود ليمحو تاريخ اليوم، ويكتب على السبورة السوداء بالطباشير البيضاء تاريخاً غير التاريخ، ويختار للدرس عنواناً غير العنوان.

ماذا يعني يا أستاذ أن يعترف رئيس أمريكي في القرن الحادي والعشرين بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان السورية المحتلة منذ القرن العشرين؟ ماذا يعني أن يشيد رئيس الوزراء الإسرائيلي بالخطوة الأمريكية، ويصفها بأنها «تاريخية»؟ ماذا يعني أن تعترض سوريا على الخطوة الأمريكية، وتصف قرار الرئيس الأمريكي بأنه «اعتداء سافر على سيادتها»؟ ماذا تعني كلمة «سيادة»؟ كيف تكون الدولة «ذات سيادة» وآلاف الأغراب يعيثون فساداً في أرضها؟ كيف تكون الدولة «ذات سيادة» وآلاف المقاتلين يفدون إليها من كل أنحاء الدنيا ليلتحقوا بالتنظيمات الإرهابية المسلحة التي تتكاثر على أرضها؟ كيف نفرق بين «اعتداء سافر» و«اعتداء غير سافر» وكل ما يحدث في أنحائها انتهاك سافر وصريح لسيادتها؟

اشرح لنا يا أستاذ هذا الدرس الصعب، اكتب تاريخاً غير التاريخ، أعدنا سنوات إلى الوراء، إلى الزمن الجميل الذي لم نعرف قيمته إلا اليوم. لو كنا نعرف أنا سنعيش الزمن الأسوأ لتمسكنا به. لو كنا نعرف أن هناك ما هو أسوأ من وعد بلفور لرضينا به. لو كنا نعرف أن القدس والجولان، وما لا نعلم حتى الآن، ستكون هي الثمن الآتي، لصفقنا الباب في وجه كل الحلول ورضينا بالحل الأول. لو كنا نعرف أن الجدران لها آذان لاخترنا الصمت على الهذيان.

اشرح لنا يا أستاذ هذا الدرس الجديد، فقد كثرت الوعود، وما عاد وعد بلفور هو الدرس الوحيد في مناهجنا التي دار عليها الزمان، وما عاد كتاب التاريخ يناسب هذا المزاج المتقلب بين الكفر وبين الإيمان. ما عدنا نفهم هذا الخارج من جلد الثعبان، ما عدنا نعرف كيف نفرق بين عدو اليوم وصديق الأمس، ولا كيف يكون المرء حليفاً وعدواً في ثوب واحد، أو كيف يكون قريباً وبعيداً في آنٍ واحد، أو كيف يكون رفيقاً وعنيفاً في شخص واحد، ما عدنا نعرف كيف نفرق بين الماء وبين النار على خط واحد.

علمنا يا أستاذ التاريخ كيف نقاوم هذا الطغيان ولا نخسر أنفسنا، فقد ران علينا الخوف من المجهول، وأصبح كل طغاة الدنيا يعطون وعوداً بعد وعود، ونحن نصفق للجلادين، يخدعنا المنغمسون إلى الأذقان بأوحال من خارج هذا الوطن المحتل، تحرك دفتهم أموال من خارج هذا الوطن المحتل، يقتاتون على قدسية هذا الوطن المحتل، يقترفون ذنوباً بحق الوطن المحتل، يصلّون الظهر بمسجده الأقصى، وفي الليل يبيعون قضيته بالثمن الأغلى.

كنا نستغرب كيف تجرأ بلفور القرن العشرين على منح الوعد المشؤوم لشذاذ الآفاق،كما كنا ندعوهم، فما عدنا نستغرب كيف تجرأ بلفورات القرن الحادي والعشرين على منح صكوك ووعود أكبر من ذاك الوعد المشؤوم وصاحبه؟

لا تشرح الدرس يا أستاذ، فما عاد لنا عقل يستوعب هذا الهم.

* كاتب إماراتي

Email