قيادة التحديات

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يوجد دولة في العالم محمية من مفاجآت الأزمات والتحديات والمشكلات الطارئة، ولا أحد يستطيع الهروب من الواقع أو الاختباء من الحقيقة في ظلّ الانتشار السريع لوسائل الاتصال الحديثة، التي جعلت المعلومة تصل إلى أي مكان في العالم خلال ثوانٍ معدودة.

وهذا ما حصل في نيوزيلندا عندما قام إرهابي أسترالي باقتحام مسجدين خلال بثّ مباشر ليرتكب مجزرة بحقّ المصلّين؛ ويترك الرأي العام العالمي في حالة من الذهول لهول هذه الجريمة البشعة.

في مثل هذه الأزمة أو المحنة يظهر المعدن الحقيقي للقادة الذين يواجهون الواقع المرير بثقة وحزم، فيحوّلون الأزمات إلى إنجازات والمحنة إلى منحة، ويثبتون جدارتهم وقدرتهم على الانتصار على أخطر التحدّيات؛ بحكمتهم وحسن إدارتهم وسرعة تصرّفهم.

فقد تحوّلت رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أردرن إلى رمز عالمي وإلى أيقونة للسلام والمحبّة؛ بفضل حكمتها وأسلوبها المتميز في مواجهة الأزمة التي لفّت دولتها بالسواد بعد مذبحة المسجدين، فهي لم تلجأ إلى قانون طوارئ، ولم تشكّل خليّة أزمة، بل تصرّفت بحكمة وكانت صادقة بمشاعرها وتصريحاتها.

لقد ظهرت جاسيندا أردرن مرتين مرتدية حجاباً بسيطاً يعكس تعاطفها مع أهالي الضحايا الذين زارتهم وقامت بمواساتهم بكلّ إنسانية ولطف، وعندما ألقت خطابها في جلسة البرلمان الطارئة التي عقدت بصدد الهجوم الإرهابي؛ بدأت الخطاب بتحية الإسلام (السلام عليكم) لتعبّر عن تضامنها مع أسر الضحايا.

كما كانت حازمة في ما يتعلّق بالإرهابي الذي نفّذ الهجوم والذي رفضت أن تذكر اسمه لكي لا تحقق له الشهرة التي يبتغيها، فأكّدت أنّه سيخضع لقوّة القانون النيوزلندي، ورغم تهديدات الإرهابيين بالقتل والتي وجّهت لها عبر موقع التواصل الاجتماعي تويتر بعبارة «أنت التالية»؛ إلا أنّها بقيت على موقفها الذي أثبتت من خلاله أنّها جديرة بمنصبها كقائدة ناجحة، ورئيسة وزراء لجميع مواطني دولتها بغضّ النظر عن انتمائهم العرقي أو الديني، فكانت واضحة وضوح الشمس بعبارتها: «كثير من الضحايا هم من أعضاء جالياتنا المهاجرة ونيوزيلندا هي موطنهم، وهم منا».

لقد كسبت هذه السيّدة محبّة واحترام جميع المسلمين، وجميع النيوزلنديين والعالم أجمع، فاستحقّت التكريم لنعبّر لها عن احترامنا لموقفها، حيث غرّد حولها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، قائلاً: «شيعت نيوزيلندا اليوم شهداء المسجدين. وتعاملت حكومتها مع الأزمة بكل حكمة. وكسبت رئيسة وزرائها احترام المليار ونصف المليار مسلم بتعاملها العاطفي الصادق مع الحادث الإرهابي الذي استهدف مشاعر جميع المسلمين. شكراً جاسيندا أردرن». كما زيّنت صورتها برج خليفة في دبي.

بقدرتها على تحويل المحنة إلى منحة، تعيد هذه القائدة إلى الأذهان مشهد الأزمة التي حدثت بدبي في رأس سنة عام 2016، عندما شبّ حريق ضخم في فندق العنوان، فاستطاعت دبي أن تحتوي الحريق الذي مضى من دون ضحايا - ولله الحمد - ومن خلال هذه الأزمة أثبت قائدنا الفذّ صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد أنّه قائد ملهم وشجاع عندما أمر باستمرار الحفل في نفس المكان وعدم نقله إلى أي مكان آخر في دبي، وأنّه قدّم لمدينتنا كلّ الإمكانيات التي جعلتها تواجه كارثة بهذا الحجم بسرعة ودقّة ونجاح، فتحوّلت أزمة حريق فندق العنوان إلى قصّة نجاح متفرّدة بفضل حكمة وشجاعة القائد، وسرعة التصرّف من قبل المعنيين الذين حوّلوا الكارثة إلى درس مستفاد، وتحدّوا المحنة ليجعلوها إنجازاً عظيماً آخر يضاف إلى سجّل إنجازات دبي ويشهد به العالم أجمع.

هكذا إذاً تكون القيادة الناجحة ويكون القادة المتميزون الذين يستحقّون كلّ احترام وتقدير، لذلك في أزمة نيوزيلندا التي تحوّلت إلى أزمة عالمية لا يسعنا إلا أن نشكر هذه الدولة بحكومتها وشعبها لحسن التعامل مع هذا الموقف الصعب، فقد قدّم الإرهابي الأسترالي فائدة للمسلمين من حيث لا يدري، لأنّه كان السبب في تحويل المأساة إلى فرصة من أجل تأسيس منظومة للتضامن مع المسلمين، ومن أجل إثبات جدارة القيادة النيوزلندية وقوّتها. وتحوّلت دماء شهداء المجزرة إلى وقود لمصابيح المحبّة التي تضيء قلوب المتعاطفين مع المسلمين في هذه المحنة.

Email