أوهام الإرهابيين

ت + ت - الحجم الطبيعي

على الفور وجدت نفسي أقارن بين ذلك الإرهابي الأسترالي، الذي راح ضحيته أكثر من 50 شخصاً من المسلمين أثناء أداء صلواتهم في مسجدين بنيوزيلندا، وبين هؤلاء الإرهابيين الذين ينتمون زوراً وبهتاناً إلى المسلمين ويقتلون بدم بارد غيرهم من المسلمين أو غير المسلمين في المساجد أو في الكنائس أو من رجال الشرطة أو الجيش.

قام الإرهابي الأسترالي بقتل ضحاياه ولم يرف له جفن، بل ظل متمسكاً بآرائه العدوانية تجاه المسلمين وغيرهم من أصحاب البشرة السمراء وكل المهاجرين، وراح يهذي بأفكاره أمام المحكمة، مشيراً إلى أنه سوف يتم إطلاق سراحه فيما بعد ليحصل على جائزة نوبل للسلام.

الأفكار نفسها للإرهابيين الآخرين الذين يعتقدون صواب أفكارهم، وأن السيادة لا بد أن تكون لهم في الدنيا، وأن مصيرهم في الآخرة هو جنة الخلد.

عقلية مريضة ومختلة تؤكد أن الإرهاب لا دين له، ولا وطن، وإنما هم جنس واحد وعقلية واحدة سواء كان الإرهابيون من الغرب أم من الشرق، وسواء كانوا ينتمون إلى الإسلام أو المسيحية أو اليهودية أو حتى من غير الأديان السماوية.

أخيراً تصاعد إرهاب اليمين المتطرف المؤمنين بتفوق العرق الأبيض، ووفقاً لإحصاءات أجرتها بعض مراكز الأبحاث، فإن نحو 78% من العمليات الإرهابية التي وقعت في العام الماضي 2018 نفذها متطرفون يؤمنون بتفوق العرق الأبيض، وهؤلاء يطالبون برحيل المهاجرين من بلادهم للحفاظ على تفوق العرق الأبيض وعدم اندثاره، ورغم هزيمة أصحاب تلك النظريات في الحرب العالمية الثانية فإن المؤمنين بها ظلوا موجودين كخلايا نائمة لفترات طويلة ثم بدأت تطفو على السطح من جديد منذ فترة ليست بالقليلة مع ظهور موجات اليمين المتطرف في العديد من الدول الأوروبية.

الإرهابي الأسترالي يعترف أنه فاشي ويميني متطرف وقومي أبيض، وكان يخطط لجريمته منذ عامين، وهو ينتمي لنفس فصيل الإرهابي النرويجي أندريس بريفيك، المدان بقتل 77 شخصاً في هجوم على مخيم لحزب العمل الحاكم في النرويج عام 2011، ليتحول ذلك الإرهابي النرويجي إلى أسطورة وقدوة للإرهابيين البيض الذين يقودون حملات الكراهية والتحريض ضد الأجانب عموماً، والمسلمين خصوصاً في أوروبا وأمريكا وأستراليا.

وفي الوقت الذي تعد فيه قارة أوروبا هي أكثر القارات التي تقع بها جرائم عنصرية ضد المسلمين والأجانب، فإن الولايات المتحدة بدأت هي الأخرى تنضم لقائمة الدول التي يتعرض فيها المسلمون إلى جرائم كراهية وتحريض، حيث كشف مكتب التحقيقات الفيدرالي «إف بي آي» عن ارتفاع معدلات تلك الجرائم بنسبة 67%، في حين تضاعفت الجماعات المعادية للإسلام 3 مرات ليصلوا إلى 101 جماعة تنتشر في 20 ولاية أمريكية.

مذبحة نيوزيلندا جاءت تتويجاً لهذا الفكر الإرهابي المتنامي في العديد من دول العالم ضد المهاجرين والأجانب عموماً، والمسلمين خصوصاً، لتؤكد أن الإرهاب واحد وإن اختلفت مسمياته أو جنسيته أو دينه، وقد آن الأوان لمواجهته لأنه كالنار تسري في الهشيم وتأكل ما حولها دون هوادة إن لم تتم محاصرتها ووأدها في مهدها.

على الجانب الآخر فقد كان موقف السيدة جاسيندا أرديرن رئيسة وزراء نيوزيلندا أكثر من رائع في مواجهة الإرهاب ضد المسلمين هناك، وقبل الحادث لم يكن يعرف الكثيرون من هي رئيسة وزراء نيوزيلندا، على اعتبار أن نيوزيلندا بلد هادئ يقع في أقصى أطراف العالم، ولا يشارك بفاعلية في الكثير من الأحداث الدولية، ولعل أول ما لفت الانتباه إليها صورتها أثناء انعقاد الجمعية العامة الأخيرة للأمم المتحدة وهي تداعب طفلتها الرضيعة، إلا أن الحادث كشف عن سيدة بألف رجل أو تزيد، وهي تعبّر عن جيل من الزعماء الشباب المؤهلين للقيادة بحكمة ووعي بعيداً عن شعارات «الشعبوية» أو الخضوع لأفكار المتطرفين والإرهابيين، وأعطت درساً عملياً لكل قادة العالم في التعامل مع الإرهابيين، حيث قامت بإدانة الحادث الإرهابي فور وقوعه بأشد وأعنف العبارات، واعتبرته هجوماً إرهابياً، ثم ذهبت على الفور إلى أسر الضحايا المتضررة، وهي تضع على رأسها غطاء الرأس احتراماً لمشاعرهم، واحتضنتهم وقدمت لهم المواساة، ووعدت بتحمل جميع تكاليف جنازات الضحايا، وأكدت ضرورة دعم أسر الضحايا بكل أشكال الدعم.

ليس هذا فقط، بل إنها أصرت على افتتاح جلسة البرلمان النيوزيلندي بتلاوة آيات القرآن الكريم تكريماً لضحايا الحادث الإرهابي، الذي أسفر عن استشهاد 51 مصلياً، ووقف جميع أعضاء البرلمان خلال قراءة القرآن الكريم داخل القاعة، وأثنت رئيسة الوزراء جاسيندا أرديرن التي اتشحت بالسواد على شجاعة وجسارة المصلين الذين كانوا في مسجدي كرايستشيرش، قائلة: «إن البلاد تقف إلى جانب الجالية المسلمة المكلومة في أحلك الأيام».

وحكت رئيسة الوزراء قصة الحارس حاجي محمد داود الذي فتح باب المسجد للإرهابي قائلاً له: «أهلا يا أخي مرحبا»، مشيرة إلى أن هذا الترحيب يخبرنا بأنه كان يؤمن بعقيدة ترحب بكل أفرادها وتتسم بالانفتاح والاهتمام لتنهي خطابها، كما بدأته بتحية الإسلام «السلام عليكم» باللغة العربية.

أما على جانب الإجراءات العملية فقد تحركت أيضاً بشكل حاسم إزاء الأسلحة، متعهدة بتغيير القوانين الخاصة بحيازتها، وحظر ملكية الأسلحة الآلية وشبه الآلية.

أيضاً فإنها تنبهت إلى خطورة وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة «السوشيال ميديا» لتحذر منها، ومن خطورة ما تقوم به من خلال محتواها السيئ والخطير، قائلة إن وسائل التواصل الاجتماعي تحتاج إلى وقف التظاهر بأن بإمكانهم أن يكونوا محايدين، فهم الناشرون وليس مجرد سعاة بريد، ولا يمكن أن يكون هناك وضع تحقق فيه تلك الوسائل الأرباح من دون مسؤولية، وذلك في إدانة صريحة وواضحة لبث فيديو مرتكب الهجوم الإرهابي الذي صوره لنفسه وهو يرتكب جريمته البشعة.

أعتقد أن ما فعلته رئيسة وزراء نيوزيلندا يفتح الباب من جديد لتفعيل إقامة مؤتمر عالمي لمناهضة الإرهاب قبل أن نستيقظ على جريمة إرهابية جديدة هنا أو هناك.

 

 

Email