العدالة الاجتماعية ضمان الاستقرار

ت + ت - الحجم الطبيعي

تتجه أنظار العالم نحو فرنسا ومتابعة التطورات المتلاحقة فيها، حيث احتلت أنباء حركة «السترات الصفراء» الاحتجاجية العناوين الرئيسية، ليس في الصحف الفرنسية فحسب، بل في جميع الصحف العالمية تقريباً، وتعددت التحليلات لتفسير دواعي الحركة وخاصة موقف الشعب منها، حيث يثير الاندهاش تعاطف أغلبية من الفرنسيين، لا بأس بها مع أصحاب السترات الصفراء، رغم استيائهم من أعمال العنف الذي أوقعته بعض العناصر، خاصة ضد الرموز الحضارية، ولكن كما يقال «إذا عرف السبب، بطل العجب، لذا يتطلب الأمر الكثير من الجدية والموضوعية، قدر المستطاع، لوضع الأحداث في إطارها الصحيح.. وأكيد أن أعمال العنف، من حرق وتخريب وهدم المعالم الحضارية، مثل ما جرى لشارع الشانزيليزيه الذي يعتبره الكثيرون، أجمل شوارع العالم، وتحطيم التماثيل التاريخية وأعمال السطو والسلب والنهب، قد أغضبت الشعب الذي ظل محافظاً عليها لمئات السنين، ولكنه أولاً، لا يعمم مسؤولية هذه الجرائم على كل المتظاهرين وهو ثانياً، وهذا أمر في غاية الأهمية، لديه تحفظات على السياسة الاجتماعية للرئيس إيمانويل ماكرون، والذي حتى كتابة هذه السطور، لم يخرج عن صمته الغريب، ويرد على مطالب البعض وتساؤلات البعض الآخر.. والأكيد أن الأغلبية الساحقة من الفرنسيين قد أساءهم، إقدام ماكرون على مشروعه بإلغاء قانون فرض نسبة مهمة من الضرائب على أصحاب الثروات الكبيرة، في الوقت الذي فرض فيه أعباء ضريبية جديدة على مرتبات الطبقات المتوسطة والصغيرة وحتى أصحاب المعاشات.

ومن أهم العوامل الاقتصادية، أن القوة الشرائية لليورو اقتربت من تلك التي كانت للفرنك، علماً بأن اليورو من المفترض أنه يعادل أكثر من ستة أضعاف الفرنك، لم يكن الغضب إذاً قاصراً على زيادة أسعار الوقود، بل يمكن اعتبار ذلك، كما قال أكثر من محلل فرنسي، القشة التي قصمت ظهر البعير.

وكلما جرت توترات اجتماعية في مكان ما، تذكرت العبارة الرائعة التي قالها سيدنا عمر بن الخطاب لأحد ولاته، عندما سأله عن أحوال ولايته فرد الرجل بفخر، إنه يبني حولها سوراً لتحصينها ضد أية مخاطر، قال عمر: «حصنها بالعدل».

العدل إذن، ومنذ قديم الزمان، هو الحصانة الحقيقية، فالحاكم الذي يجاهد لتطبيق العدالة الاجتماعية، قدر استطاعته، بوسعه أن ينام ملء جفونه، مطمئناً، ولو تحت ظل شجرة كما حدث مع رمز العدالة دون قلق أو خوف. ومن المناسب، بل من الضروري، أن يدرك أصحاب الثروات الطائلة، أن هذه الثروات لن تجعلهم في مأمن من الغضب الشعبي، لأن الطمع يقل ما جمع.

وغضب الفرنسيين من السياسيين سببه شعورهم بانحيازهم إلى الأغنياء بثرواتهم الفاحشة والذين يستيقظون كل صباح بشعارهم، الأثير، هل من مزيد؟ حيث لا تقل شهيتهم عن رفع أرصدتهم في البنوك إضافة إلى الإنفاق الباهظ على متع الحياة، وليذهب الفقراء وأبناء الطبقة المتوسطة إلى الجحيم. ولا يفهم الكثير من متابعي السياسة، انحياز بعض السياسيين في الغرب لأصحاب الثروات الطائلة، مع العلم أنهم تربعوا على قمة السلطة بفضل أصوات الأغلبية الشعبية ومساندتها لهم.

وقد يظن البعض وأنا منهم، أن المخربين والذين أحرقوا ودمروا، هم من أدوات أصحاب الثروات الطائلة، بقصد إثارة السخط والنقمة عليهم، ونفور الجماهير منهم لإخماد صوت الاحتجاجات.

وكان على الرئيس الفرنسي الانتباه إلى نتائج استطلاعات الرأي التي أشارت مؤخراً، إلى انخفاض شعبيته انخفاضاً ملفتاً للنظر، ولو أنه فعل، ما كان قد أقدم على الإعلان عن الإجراءات التي كانت بمثابة، صب الزيت على النار. والأمل أن يدرك ماكرون ومعه أصحاب الثروات الهائلة أن العدالة الاجتماعية، ولو في حدود معقولة، هي ضمان الاستقرار.

Email