العنصرية أمّ الإرهاب

ت + ت - الحجم الطبيعي

مؤلم جداً ومحطّم لكلّ مشاعر الإنسانية أن نرى الأبرياء يُقتَلون في بثّ مباشر، وذنبهم الوحيد أنّهم داخل بيت من بيوت الله.. مؤلم لون الدماء وأصوات الاستغاثة، ومرعب صوت المرأة التي كانت تصرخ وهي مضرّجة بالدماء خارج المسجد (help me) فيردّ عليها قاتلها برصاصة في الرأس تقتل كلّ ذرّة إنسانية في عقله وقلبه المليئين بالكراهية.

لا بدّ أن الفيديو الذي يظهر الإرهابي وهو يقتل المصلّين في مسجدين بنيوزيلندا قد حظي بملايين المشاهدات عبر العالم، فقد انتشر خلال دقائق انتشار النار في الهشيم، محققاً لصاحبه الإرهابي الشهرة التي ينشدها.

ذلك الفيديو الذي صنّف (+18) بسبب شدّة العنف في محتواه يختصر بدقائقه القليلة ما أنتجته قرون من الكراهية والعنصرية التي تجذّرت في نفوس كثير من الأشخاص تجاه من يخالفهم في المعتقد أو العِرق أو الانتماء، ويضعنا أمام معضلة إنسانية أخلاقية، فكيف لهذا الكمّ من العنف أن يولد داخل شخص ما ليدفعه لارتكاب مذبحة أقلّ ما يقال فيها إنّها ندبة في وجه إنسانية القرن الواحد والعشرين.

كثير من المحلّلين يرون أن الدافع وراء جرائم الإرهاب ضدّ المسلمين في مختلف دول العالم هو ظاهرة (الإسلاموفوبيا) التي تفاقمت بعد أحداث 11 سبتمبر، وتزايُدِ عدد المهاجرين المسلمين إلى دول الغرب نظراً لسوء الأحوال الأمنية والمعيشية في بلدانهم، ليصل إلى حوالي 30 مليون نسمة في أوروبا، وتشير التقديرات إلى أنّ هذا العدد سيبلغ نسبة تلامس 20% من عدد سكان القارة الأوروبية بحلول العام 2050، الأمر الذي يشكّل خطراً ديموغرافياً من وجهة النظر الأوروبية، ويُخشى معه من تكرار العمليات الإرهابية ضدّ المسلمين.

وجاء «داعش» ليكرّس (الإسلاموفوبيا) بما يرتكبه أفراده من جرائم في حقّ المسلمين قبل غيرهم، فإرهابهم لم يفرّق بين مسلم وغير مسلم، طالما أنّ الضحية لا توافقهم بتطرّفهم ورفضهم للآخر.

وللأسف أصبح كثير من الشعوب الغربية يربط الإسلام بداعش، لأنّ هذا ما تمّ ترويجه عبر مختلف وسائل الإعلام العالمية، دون أن يجد ديننا الحنيف من ينشر صورته الحقيقية ويعرّف الآخرين بهذا الدين الذي جاء به رسول كريم قال في أحد أحاديثه الشريفة: «الناس سواسية كأسنان المشط الواحد، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى».. وهو الرسول نفسه الذي أوصى جنوده ألا يمثّلوا بجثّة عدوّ، وألا يقتلوا حيواناً، وألا يقطعوا شجرة.

لذلك فالإنسانية بأكملها أمام تحدٍّ خطير، وعلى دول العالم التكاتف والتعاون لتكريس ثقافة التسامح وتقبّل الآخر، ومواجهة موجات التطرّف والأفكار العنصرية في كلّ الأديان والتيّارات السياسية والفكرية، ولا بدّ من مدّ جسور التقارب بين الشعوب وتنظيم المبادرات والبرامج الكفيلة بتقريب وجهات النظر، وبثّ روح المحبّة والألفة بين الثقافات المختلفة.

ومما يؤسف له أنّ ما ساهم في تشويه صورة الإسلام والمسلمين هو العنصرية المتجذّرة في نفوس بعض الغربيين الذين يرون أنّ العرق الأبيض هو الأرقى والأسمى، وكلّ من عداه لا يستحقّ الحياة، فبهذه العقلية وهذا الفكر المتطرّف تسلّحَ هؤلاء طوال قرون من الزمن ليرتكبوا المجازر تلو المجازر بحقّ الهنود الحمر في أمريكا، وبحقّ الأفارقة في أوطانهم ومنافيهم.

لقد استفاقوا لإنسانيتهم المفقودة منذ مائة عام لا أكثر؛ بعد أن شبعوا قتلاً بينهم واستعماراً للشعوب الأخرى، ولكن على ما يبدو بقيت هذه الإنسانية غافية أو متوارية لدى بعضهم، لتخرج بين الفينة والأخرى مقتحمةً سكون الأحياء الهادئة، ومحطّمة سكينة بيوت الله عبر زناد بندقية.

في غمرة المشهد الدموي الذي تصدّر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي خلال الأيام القليلة الماضية، خرجت عشرات التحليلات التي تدرس دوافع الإرهابي الأسترالي المتطرّف لارتكاب هذه المجزرة، ولفتني أنّ رئيسة وزراء نيوزيلندا تعهّدت بتعديل القوانين الخاصّة بحيازة وامتلاك السلاح بعد الهجوم على المسجدين تجنّباً لتكرار هذه المأساة.

لقد غاب عن الوزيرة أنّ قوانين امتلاك السلاح ليست الوحيدة التي تحتاج إلى تعديل؛ وإنّما الثقافة والفكر هي التي تحتاج إلى تعديل عبر ثورة فكرية تشمل مناهج التعليم ومنهجيات وسلوكيات التعامل في دوائر الهجرة ومؤسسات العمل، وفي المطارات والمعابر الحدودية.

إنّنا ببساطة ندعوهم لكي يتعلّموا من تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة في التسامح وتقبّل الآخر، ندعوهم للتعرف على المسلمين الحقيقيين وعلى الإسلام الذي ساوى بين أبناء آدم بكلّ ألوانهم ولغاتهم وانتماءاتهم العرقية والإثنية.

ففي الوقت الذي تمسح فيه نيوزيلندا آثار الدماء عن سجّادات الصلاة، ويقف مسؤولوها موقفَ ضعفٍ أمام العالم لعجزهم عن تكريس مفهوم الإنسانية والمحبّة، وفشلهم في منع الإرهاب من ضرب الأبرياء في عقر دارهم. في هذا الوقت ترتقي الإمارات لترفع التسامح شعاراً وعنوان مرحلة ومنهج حياة.. تفتح ذراعيها لكلّ ألوان البشر، وتستقبل زوارها بالابتسامة والكلمة الطيبة لا بالسباب والشتائم.. وبالورود لا بالبنادق.

كيف لا تكون كذلك وفيها قادة إنسانيون لم تفرّق مبادراتُهم لعمل الخير بين عربي وغير عربي، وبين مسلم وغير مسلم؟

كيف لا تكون الإمارات كذلك وفيها قائد إنساني ملهم هو صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، الذي قال:

«لا نرى الناس إلا سواسية كما خلقهم الله، لا فضل لأحد على غيره إلا بعمله وأخلاقه والتزامه بقانوننا ودستورنا واحترامه لدولتنا»!نسأل الله أن يتقبّل ضحايا مجزرة نيوزيلندا بين الشهداء، وأن تكون هذه المأساة درساً للعالم كلّه لكي تدرك جميع شعوب الأرض معنى وأهمية التسامح.

* المنسق العام لبرنامج دبي للأداء الحكومي المتميز

 

Email