إهمال مع سبق الإصرار والترصّد

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم يعد ممكناً الصمت على «الإهمال» أكثر من ذلك، بعد أن حصد أرواح نحو 22 قتيلاً وأكثر من 40 مصاباً في حادث جرار القطار بمحطة مصر يوم الأربعاء الماضي، في جريمة بشعة هزت وجدان الشعب المصري كله.

هي جريمة إهمال سائق، لكنها تفتح الباب واسعاً أمام ضرورة محاربة ظاهرة الإهمال «المتفشية» في قطاعات عديدة، بسبب «مورثات» خاطئة، وتراكمات زائفة، وسلوكيات معيبة، المتهمون الآن في قبضة العدالة، وهناك ثقة مطلقة في معاقبتهم بما يستحقون، غير أن هناك مشكلة في النصوص التي تعاقب جريمة الإهمال، ما يستدعى ضرورة إعادة النظر في عقوبات تلك الجريمة، وتعديلها بما يتوافق مع الآثار المترتبة عليها، وما إذا كان هناك ضحايا في حالة وقوع تلك الجريمة، وأيضاً التفرقة بين الإهمال غير المقصود، والإهمال مع سبق الإصرار والترصد، كما حدث في الجريمة الأخيرة، بحيث يضع المشِّرع تفاصيل كثيرة حول تلك الجريمة، ليكون أمام القاضي درجات متعددة للعقوبة، بحسب نوعية الجريمة وأسبابها وتبعاتها، ودرجة التعمد والقصد في ارتكابها.

لم يعد مقبولاً استمرار هذه النوعية من العاملين، الذين يتسبب إهمالهم في كل تلك الكوارث وغيرها، وللأسف، هناك الكثير من التشريعات الحالية تقف حجر عثرة أمام سرعة معاقبة المخطئين، واتخاذ الإجراءات الرادعة تجاههم، لأن معظمها قوانين موروثة منذ أكثر من خمسين عاماً، وكلها تتعلق بالنظم الاشتراكية المستمدة من الفكر الشيوعي الذي لم يعد موجوداً الآن، حتى في تلك الدول التي لا تزال ترفع شعارات الشيوعية والاشتراكية، كالصين، التي تطبق قوانين أكثر صرامة من القوانين الرأسمالية.

تعديل التشريعات الخاصة بجريمة الإهمال، باتت ضرورة ملحة لمواكبة حجم التطورات الهائلة التي تحدث على أرض مصر الآن، في مختلف المجالات، والحفاظ على المكتسبات التي تحققت خلال الفترة الأخيرة.

على الجانب الآخر، فإن البعض يحاول اختزال حجم التطورات في السكك الحديدية في الحادث الأخير، رغم أن تقرير التنافسية الدولية لعام 2018، وهو تقرير دولي موثوق به، أشار إلى أنه حدث تحسن كبير في مستوى السكك الحديدية في مصر، وقفزت من المركز الـ 71 عام 2015 على مستوى العالم، إلى المركز الـ 50 عام 2018، أي أنها قفزت 21 مركزاً دفعة واحدة في أقل من 3 سنوات، وفى السياق نفسه أيضاً، قفزت مصر في مجال جودة الطرق من المركز 118 عام 2015، إلى المركز 75، أي أن الطرق في مصر قفزت 43 مركزاً في الثلاث سنوات الأخيرة، أما في مجال البنية التحتية، فقد قفزت مصر 54 مركزاً دفعة واحدة خلال نفس الفترة، لتحتل المركز الـ 71، بعد أن كانت في المركز الــ 125.

سكك حديد مصر هي ثاني سكك حديدية على مستوى العالم بعد المملكة المتحدة، ويبلغ طولها حوالي 9 آلاف كيلو متر، وتربط بين محافظات مصر المختلفة، في شبكة هائلة ومتسعة من الطرق الحديدية الحديثة، ويعمل بها أكثر من 86 ألف عامل من جميع التخصصات الفنية والإدارية والعمالية، وتقوم بنقل نحو مليون ونصف مليون راكب يومياً، في أسطول يضم 3500 عربة، منها 850 عربة مكيفة، وتتراوح سرعة القطارات من 90 كيلو متراً إلى 120 كيلو متراً، وقد شهدت السكك الحديدية طفرة هائلة خلال السنوات الأربع الماضية، حيث تم التجديد الشامل لخط القاهرة ـ أسوان بطول 297 كم، وبتكلفة 650 مليون جنيه، وأيضاً تجديد بعض الخطوط الأخرى بطول 171كم، وبتكلفة 600 مليون جنيه.

أما في ما يخص عربات الركاب، فقد تم توريد 212 عربة مكيفة، بتكلفة 2.86 مليار جنيه، وكذلك التعاقد على توريد 1300 عربة جديدة مع التحالف المجرى ـ الروسي، بتكلفة مليار و16 مليون يورو.

امتد التطوير أيضاً إلى العديد من المجالات، مثل توريد جرارات جديدة، وتأهيل الجرارات القديمة، وتطوير المزلقانات، واستحداث نظام الإشارات، وبلغت التكلفة الإجمالية لكل هذه الأعمال، ما يزيد على 50 مليار جنيه.

ما حدث من تطوير، ما هو إلا بداية مشوار طويل لتطوير السكك الحديدية، تحتاج فيه ربما إلى أكثر من الـ 50 ملياراً التي تم إنفاقها خلال السنوات الأربع الماضية، من أجل استكمال خطط تطوير عربات الركاب، وتحويلها إلى عربات آدمية لائقة على جميع الخطوط، وكذلك تطوير المزلقانات، وتحويلها إلى مزلقانات إلكترونية، لا يتدخل فيها العنصر البشري، واستكمال جهود تطوير وتحديث باقي خطوط السكك الحديدية.

هذه الجهود لا يمكن أن يتم تحقيقها في يوم وليلة، لكنها تحتاج إلى تمويل ضخم وبعض الوقت، وهو ما يجب تفهمه والصبر عليه، بعيداً عن التهوين والتهويل، ومحاولات نشر الشائعات والتشويش وقلب الحقائق.

Email