الارتجال في سوريا

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا شيء بالمجان، وحين تختلف لغة التفاهم وتتقاطع الأهداف، يتحتم على الطرف المستفيد أن «يدفع» لقاء حصوله على شيء ما، فكيف إذا كان الطرف الآخر يتجاهل التلميح والتصريح، واستمر بالسخرية من سذاجة الطرف الأول أو غبائه أحياناً؟

أنقرة الارتجالية، التي لم تعد مؤخراً تقوم بأي عمل مخطط واستراتيجي، لا تفهم لغة موسكو المعقّدة، ولا تستوعب أهدافها ومخططاتها بعيدة المدى في سوريا، ظنّت أن الرئيس الروسي بوتين، يقبل ببعض الفتات مقابل سحق الأكراد في الشمال السوري، بل ويرى مستشاروها، أن الدعم الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية، سيجعل الروس يشاركونهم أحلامهم الكبيرة في تلك البقعة الساخنة، ويمدونهم بالسلاح والعتاد والتغطية، لوأد الأكراد، في وضح النهار!

روسيا تدرك الأزمة التركية الخانقة بخصوص السلاح والطيارين، خاصة حين لاح ضعف الجيش التركي، عقب محاولة الانقلاب على أردوغان عام 2016، وقام سلاح الجو التركي، على إثرها، بتسريح أكثر من 300 طيار لمقاتلات (F-16)، حسب تقرير لمجلة «ناشيونال إنترست» الأمريكية، ورفض الأمريكان طلبات تركية متعددة لتدريب طيارين جدد، إضافة إلى رغبتها الجامحة لشراء منظومة الصواريخ (S-400) طويلة المدى، والمضادة للطائرات من روسيا، والتي «لن تحل مشاكل تركيا في مجال الدفاع الجوي».

بالمقابل، فإن محاولات تركيا للحصول على مساعدة باكستان، التي زارها ولي العهد السعودي مؤخراً، وحظي فيها باستقبال تاريخي، وتمكن من ترسيخ منظومة من العلاقات والتحالفات، خاصة تلك التي تتقاطع مع تركيا وإيران، سيجعل الطلب التركي لباكستان، لتدريب الطيارين الأتراك على طائرات (إف -16)، وشراء سفن بحث وإنقاذ، غير ممكن، وباعتبار أن ذلك أيضاً، قد ينتهك قواعد تصدير الأسلحة الأمريكية.

صحيح أن اللغة الروسية معقدة، لكن يمكن فهمها، وبينما بات غرور موسكو مبرراً، على الأقل في ما يتعلق بسوريا، وإعادتها قطعة واحدة إلى أصحابها، إلا أن الغرور العثماني غير المبرر أبداً، واللغة العصية على الفهم، لما تحتويه من خداع ونوايا خبيثة، جعل الرئيس الروسي يتأنى كثيراً، وهو يجتمع بالرئيس التركي في سوتشي، الأسبوع الماضي، ويستمع إلى استجداءاته للحصول على الضوء الأخضر لاجتياح سوريا، ثم في نهاية المطاف، أكدّ بوضوح، على أهمية الالتزام باتفاقية «أضنة 1998»، التي تحفظ حدود سوريا، وتمنع المساس بسيادتها وحرمة أراضيها.

الارتجال التركي، والإيراني على حد سواء، ساهم في خلق فوضى تحالفات عبثية، وبدا أن اختلاف المواقف، سيجعل من لجم النيران في سوريا، مهمة صعبة، في ظل تعنت أنقرة، لهدم حدود سوريا ومهاجمة الأكراد، وأيضاً في ظل تشبث طهران، بشق طريق بري يصل بغداد ببيروت، والسيطرة على المعابر والممرات البرية، لتسهيل حركة الإرهاب، وتصدير الأسلحة والمليشيات المتطرفة، ما جعل «قمة سوتشي» مجرد ورقة فارغة، توضع أمام الرئيس الأمريكي لإثارة حفيظته فقط، بينما هي في الحقيقة، لا تثير مخاوفه على الإطلاق.

الرهان الورطة، بالنسبة لتركيا، والذي تفهمه روسيا ببساطة، هو التحالف الأمريكي التركي الهش، حيث أصبحت «عظْمة» المناطق الآمنة، التي ألقى بها الرئيس الأمريكي ترامب إلى أنقرة، لا تسمن ولا تغني من جوع، في ظل الشرط الأمريكي على إدارة مشتركة لتلك المناطق مع قوات سوريا الديمقراطية، والتي نعلم أنها جزء من الحفاظ على الأمن القومي الإسرائيلي، والذي يعد أيضاً من أولويات الكرملين، بل وتبدو أنها المسألة الوحيدة، تقريباً، التي تتفق فيها موسكو مع واشنطن!

لذلك، فإن طهران وأنقرة، اللتان يبدو أنهما لا تفهمان لغة «الحرب والسلم» الروسية، باقيتان في متاهة من العجز والاستجداء والفوضى، وأظنّ أيضاً، أنهما غارقتان في وحل يصعب انتشالهما منه.

 

 

Email