تحدّي الجهالة

ت + ت - الحجم الطبيعي

أكتب عبارة «تحدي القراءة» على محرك البحث «غوغل»، خاصية «الأخبار». ثوانٍ معدودة وتظهر النتائج عبر الأخبار.

«تعليم أسيوط يحصد المركز الأول في عدد المسجلين في مسابقة تحدي القراءة» (مصر)، «113 مشاركة في مسابقة تحدي القراءة في غرب الدمام» (السعودية)، «بطلة تحدي القراءة تحل ضيفة على معرض دار الكتاب في الدار البيضاء» (المغرب)، «انطلاق المرحلة الثانية من تصفيات تحدي القراءة في شرق الدمام» (السعودية)، «وزارة التربية تعتمد البرنامج الزمني لتحدي القراءة» (الكويت)، وتتوالى الأخبار وتتواتر.

تواتر الأخبار العربية المتعلقة بمشروع «تحدي القراءة العربي»– هذا المشروع الفريد الذي أطلقه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي- مع مكون منير اسمه «بنك المعرفة المصري» يعني أن ضوء المعرفة يلوح في نهاية النفق المظلم.

مكون رئيسي من مكونات بناء النفق المذكور يكمن في آفة سخيفة اسمها «الجهالة». والجهالة هي درجة أسوأ من الجهل، ومكانة أدنى بكثير من عدم المعرفة. يقول الحكماء إن الجهل هو فعل الخطأ من غير عمد، وأن الجهالة هي أيضاً فعل الخطأ ولكن مع العمد. والفارق لو تدرون كبير وعميق وخطير.

خطورة الجهالة التي تظهر ملامح عدة لها في حياتنا، وتطل برأسها عبر نوافذ عدة وأبواب كثر تكمن في التأثير سلباً على الرأي العام، أو تعميق المعلومات المغلوطة في شؤون الدين والدنيا، أو تجذير الأخبار الكاذبة لصالح مصالح ما أنزل الله بها من سلطان، أو مجرد الترويج لحالة من السيولة في المجتمعات.

وتكون النتيجة هي ما نراه ونشهده من برامج تلفزيونية تدعي إنها تنقل الخبر وتفند المحتوى وترفع راية «المواطن» رغم إنها في الحقيقة لا ترفع إلا راية التسخين والتوليع بغرض جذب عيون وآذان المشاهدين وتفريغ جيوب المعلنين.

وقد تطل الجهالة عبر منصات عنكبوتية تقول إنها تبث الديمقراطية وتدعم المشاركة الجماهيرية، لكن بعضها في حقيقة الأمر يعيد تدوير الجهل فيتحول إلى جهالة مع سبق الإصرار والترصد.

وقد تعبر الجهالة كذلك عن نفسها من خلال قلم في صحيفة أو صوت في إذاعة أو مشاركة في مؤتمر ينطق بالهوى ولا يتفكر مرتين قبل أن يبث سموماً فكرية وفيروسات معلوماتية ترتدي بدلات معرفية أنيقة لكن خادعة.

وحتى سنوات قليلة مضت، كانت أنواع الخداع الجماعي محدودة ومعروفة. جاسوس يزرع البلبلة، نظام يخدع شعبه بحجب معلومات ونشر أكاذيب، دولة معادية تشن حرباً نفسية على دولة أخرى عبر أخبار كاذبة ومعلومات خاطئة، وهلم جرا.

أما أن يأخذ البعض على عاتقه نشر الجهالة، والإفتاء فيما لا يفقه، والجدل فيما لا يعرف، ورفض ما لم يسمع عنه من قبل، ونبذ ما لا يفهم، ومعارضة ما لا يعي، ومقاومة ما لا يدرك فهذا أمر بالغ الخطورة.

فما بالك لو قام البعض بكل ما سبق ولكن في سياقات تخاطب مجموعات كبيرة من المواطنين؟ صفحة «فيسبوك»، تغريدات على «تويتر»، مشاركات عبر مجموعات نقاشية على «واتساب»، مقال رأي في موقع أو جريدة، برنامج تلفزيوني يحظى بمشاهدة أو إذاعي يمتلك قاعدة مستمعين وغيرها من سبل نشر الأفكار وبث المعلومات وتبادل الآراء.

الكثير من الأفكار والمعلومات والآراء المتداولة هذه الآونة تعاني حالة شديدة من السيولة. فمنها ما يفتقد التوثيق، ومنها ما يرتكز على القيل والقال، ومنها أيضاً ما ينشر أفكاراً ويبث آراء تنم عن نقص ومعرفة وإدراك وقدرة على التحليل المنطقي.

ولأن المنع والحجب ليسا الحل الأمثل، والتوجيه والإرشاد لم يعدا الطريق الأنسب فإن تطويق الجهالة بالعلم، وتقليصها بالمعرفة، وفضحها بالمكاشفة هي السبل المثلى. وليس هناك أوقع من تلك المكاشفات التي يكون الجمهور بطلها.

برامج «توك شو» أعيت المشاهدين بجهالة المحتوى، فلم تكتف بفقدان أرضيتها الجماهيرية، بل ارتطمت بأرض الواقع ارتطاماً مدوياً. شخصيات بزغ نجمها فجأة وكما بزغ وتألق، خفت واندثر.

خبراء وصفوا أنفسهم بأنهم «استراتيجيون» و«اقتصاديون» و«سياسيون» وجالوا على كل القنوات يحللون ويشرحون ويتوقعون ثم اتضح أنهم فقاقيع صابون. صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي تجذب الملايين وتحقق الترند وتشعل الأثير، ثم ينفض من حولها الجميع وتُترك لتتهاوى وتتحول حطاماً. وأمثلة الجهالات كثيرة.

ويبدو أن الطريق الوحيد لتحدي الجهالة يمر عبر دعم العلم وتوطيد المعرفة وتوسيع المدارك. فلا يفل الجهالة إلا فضحها وكشفها. أما الجهل فأمره سهل ومجابهته يسيرة. ويكفي أن الجاهل ضحية تقلص فرص تعليم، ونقص موارد، وغياب وعي، وإهمال أنظمة.

أما الجهالة فهي قرار واختيار رغم توافر الفرص ووجود الموارد ووعكة الوعي. وحين ينمو ويشب الصغار على «تحدي القراءة» وبين أحضان بنوك المعرفة فإنهم يكتسبون القدرة والمعرفة والمهارة على مواجهة الجهالة.

 

 

Email