بريطانيا ونهاية زمن «الممانعة السياسية»

ت + ت - الحجم الطبيعي

فقهاء العلاقات الدولية التقليديون، يعتقدون بأن معظم الوحدات السياسية، عادة ما تتوخى تحقيق مصالحها الخارجية، من خلال التمييز بين أهداف معلنة ظاهرة، وأخرى خفية باطنة.

من أراد اختباراً عملياً لصحة هذا الاعتقاد، عليه مراجعة أساليب ساسة التاج البريطاني، وهم يعالجون القضايا التي انخرطت فيها دولتهم أيام عظمتها، ويبدو أنهم لم يتخلوا عنها بعد زوال تلك العظمة إلى حد كبير.

بهذا الخصوص، يلح على الخاطر، مثلاً، كيف أن الدائرة العربية، عانت الكثير من جرائر اختلاف المعلن عن المضمر في أجندات هؤلاء الساسة ومخططاتهم تجاهها، لا سيما خلال النصف الأول من القرن الماضي.

ومن ذلك أنهم كانوا يقاربون بعض القضايا الموصولة بمستقبل شعوب هذه الدائرة، متدثرين بالمخادعة والتمويه على النوايا الحقيقية. وفي هذا السياق، كانوا يفاوضون الأطراف المتخاصمين حول هذه القضايا، ويقدمون لهم صيغاً مشحونة بالغموض، وقابلة للتفسير بالمعنى وضده في الوقت ذاته.

هذا ما جرى بالضبط مع العرب والصهاينة قبل مئة عام، وقت أن قدمت لندن للطرفين وعوداً متناقضة، سعت بها إلى إخفاء هدفها الذي تجلى لاحقاً في نكبة فلسطين. وقد لا يعلم كثيرون أن صيغة وعد أو تصريح بلفور، الصادرة عام 1917، ما زالت حتى لحظتنا الراهنة، موضوعاً خلافياً بين التفسيرات والتحليلات الفكرية السياسية والحقوقية القانونية.

والمدهش أن صيغة القرار الأممي الشهير رقم 242، تعود إلى اللورد كارادون ممثل بريطانيا في مجلس الأمن عام 1967، وهي بدورها تبدو حمالة للأوجه، وتتكاثر حول معانيها الآراء والمواقف. خمسون عاماً بالتمام تفصل بين بلفور وكارادون، لكنهما تلاقيا على نمط دبلوماسي واحد، وعقلية سياسية واحدة.

بهذا النمط ذاته، وهذه العقلية ذاتها، تحاول لندن التعامل مع قضية الخروج من عباءة الاتحاد الأوروبي (البريكست). رئيسة الحكومة البريطانية تبريزا ماي، تعلن في الظاهر أن هذا الانفصال يمثل خضوعاً ديمقراطياً لإرادة البريطانيين، الذين صوتوا عليه قبل ثلاثين شهراً، لكنها تستبطن، أو تود في الوقت ذاته، تحقيق كافة المزايا والمصالح التي توفرها العضوية العاملة.

بكلمات أخرى، تبدو ماي وفريقها الانفصالي، كمن يرغب في أكل الرغيف والاحتفاظ به! لقد التحق هؤلاء مع دولتهم بالقطار الوحدوي الأوروبي، ومكثوا فيه لخمسة وأربعين سنة، بشروطهم وتحفظاتهم تقريباً، وهم يطمعون الآن في الترجل والمغادرة بشروطهم أيضاً.

والحق أن هامش التسامح الاتحادي الأوروبي الممتد، مع التوجهات القومية البريطانية الصلبة وشبه الشوفينية، هو الذي شجع لندن على ممارساتها في مفاوضات الخروج. لكن ما يتعين على المعنيين والمتابعين ملاحظته، هو صحوة الاتحاديين لهذه الممارسات، وتصميمهم على وضع حد للمراوغات والمراوحات السياسية، التي احترفت الدبلوماسية البريطانية الأخذ بها مطولاً داخل القارة العجوز وخارجها.

حين فشلت ماي ورفاقها في تمرير اتفاق البريكست أمام البرلمان البريطاني، بعد مفاوضات شاقة مع بروكسل، لم تظهر على الاتحاديين الأوروبيين ملامح التعاطف القديم مع الممانعة أو الميوعة البريطانية.. لقد رفضوا إعادة التفاوض علي الاتفاق، وذهب رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك إلى أن «البريطانيين الذين دعوا للخروج من الاتحاد الأوروبي، من دون أن تكون لديهم خطة للتنفيذ، يستحقون مكاناً في الجحيم».

في حمأة التلاوم داخل الأروقة الفكرية والسياسية البريطانية، اتضح أن السادة الانفصاليين، أخفوا عن الرأي العام حجم الأضرار الموصولة بقرار الخروج، وأن للبقاء في التجربة الاتحادية أفضالاً ومنافع لا يصح التضحية بها. وعليه، فإن سواد البريطانيين يكتوون الآن بالأساليب والألاعيب التي مارسها ساستهم وصناع قرارهم مع الآخرين ردحاً طويلاً من الزمن.

في نوع من التعبير عن الوعي بهذه الحقيقة، يقترح بعض العقلاء البريطانيين إمكانية إعادة الاستفتاء الشعبي على البريكست، والفكرة هنا بسيطة وبريئة. فالشعب صوت لصالح الخروج من قبل بناء على معطيات بعينها، وليس هناك ما يحول راهناً دون أن يقول كلمته في سياق مختلف من المعطيات والآيات البينات.

وفي الحالتين، يظل مقام الديمقراطية محفوظاً. إذا ما تم تطبيق هذا الاقتراح، فالأرجح أن ينتصر الرأي العام للفكرة الاتحادية بأغلبية تزيد عن الـ 2 %، التي آثرت الخروج في الاستفتاء الأول.

بيد أن هذا الخيار يسوق أصحاب التوجه الانفصالي إلى مكانة اجتماعية وسياسية وثقافية لا يحسدون عليها، ويدشن لحالة غير مسبوقة من التواضع، والتخلي عن الكبر البريطاني في مواجهة الشركاء القاريين.

 

 

Email