العلم والحكمة قرينان

ت + ت - الحجم الطبيعي

إن بناء الإنسان ونهضة الأوطان يعتمدان على مقومات عدة، من أهمها العلم والحكمة، فبالعلم يصل الإنسان إلى الحقائق والمعارف، ويتوصل للاكتشافات والاختراعات، ويحل المشكلات بطرق مبتكرة، وبالحكمة يضع الأمور في مواضعها الصحيحة، ويتحلَّى بالفضائل الإنسانية الراقية، كالتواضع والصبر ورجاحة العقل والذوق الرفيع وروح المسؤولية، فالعلم مصباح العقول، والحكمة نفاذ البصيرة وتهذيب النفس.

والعلم والحكمة قرينان، فالعلم وسيلةٌ إلى العمل والبناء والتطوير، والحكمة حصانةٌ من الطيش والتهور والعجلة دون نظر وتدبير، والحكمة كما قال العلماء هي فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، فيضع الإنسان الشيء في مكانه الأليق، وزمانه الأنسب، ليتحقق منه أكبر نفع وفائدة، وهي من أهم الفضائل، كما أن طلب العلم ذاته - كما يقول الدكتور علي مصطفى مشرفة عالم الفيزياء المصري الراحل - يقوم على فضيلة راقية وهي حب الحق، وبهذين الجناحين ترتقي الدول والشعوب والأفراد.

وما من مجال إلا ويحتاج الإنسان فيه إلى العلم والحكمة، ومن أهم هذه المجالات الخطاب الديني، فالعالم والمفتي والواعظ والداعية كلهم يحتاجون إلى أن يزنوا خطابهم بميزان العلم الشرعي الصحيح، القائم على وسطية الدين وسماحته، والمنضبط بأصوله وقواعده، والمنطلق من مصادره كتاباً وسنة وإجماعاً وقياساً، دون إفراط بالجنوح إلى التطرف والغلو والتشديد، ودون تفريط بالتساهل المفرط وهدم الأسس والقواعد، كما يحتاج أصحاب الخطاب الديني إلى الحكمة، بأن يراعوا أحوال المدعوين، وما هو أنفع لهم، وينوِّعوا الخطاب بحسب مقتضى الحاجة، مع مراعاة الأولويات، والتصدي للمهددات، والعناية بالمبادرات الوطنية وتوجيهات القيادة الحكيمة التي تقود سفينة الوطن نحو بر الأمان والازدهار، ومن القضايا التي ينبغي العناية بها في هذا المضمار الحض على الوسطية والاعتدال وحفظ الاستقرار وطاعة الحاكم وقيم المواطنة الصالحة والتسامح والتعايش السلمي وغير ذلك، والداعية الذي يهمل يتناول هذه القضايا وتوضيحها مع مسيس الحاجة إليها يفتقد إلى الحكمة، ويقل نفعه وتأثيره.

وكذلك معلمو الأجيال يحتاجون إلى العلم والحكمة لإدارة العملية التعليمية في الصفوف الدراسية، وذلك بأن يتحلوا بعلم وافر ودراية كافية بالمنهج الذي يدرِّسونه، ليُحسنوا إيصال المعلومة إلى الطلبة، ويسهِّلوها عليهم، فيخرج الطلبة واعين فاهمين، وكلما ازداد نصيب المعلم من الفهم كلما كان أقدر على العطاء وغرس التميز والإبداع في نفوس الطلبة، كما قال أينشتاين: «إذا لم تستطع أن تشرح أمراً ببساطة فأنت لم تفهمه جيداً بما يكفي»، وكذلك يحتاج المعلم إلى الحكمة، ليحسن التعامل مع طلبته، ويراعي الفروق بينهم، ويحفزهم، ويؤلّف بينهم، ويعالج جوانب النقص والقصور عندهم، ويبعث فيهم الطاقات الإبداعية، ويكون أباً وأخاً لهم.

ومن المجالات التي تمس الحاجة فيها إلى العلم والحكمة مجال الإعلام، لما له من تأثير كبير في المجتمعات، فيجدر بالإعلامي أن يكون على علم بأصول الإعلام وقواعده المهنية، وعلى علم بصحة المحتوى الذي ينشره، مراعياً الحكمة في طرحه، بأن يكون إعلامه هادفاً، يحقق المصلحة، ويدفع المفسدة، ويجمع الكلمة، ويحافظ على الأمن والاستقرار، ويغلِّب المصالح العليا، ولا يكون همه مجرد الإثارة وجذب الانتباه، والإعلامي الذي لا يتحلى بالحكمة قد يُفسد أكثر مما يصلح، ويفتح ثغرات للمتصيدين والمتربصين، ويشعل الفتن من حيث لا يحتسب.

ومن المجالات المهمة التي تشتد الحاجة فيها للعلم والحكمة مجال النقد والإصلاح والتصحيح، فالنصيحة لا بد أن تقوم على علم وموضوعية، وعلى حكمة في الطرح، سواء كان ذلك في مقال أو كتاب أو برنامج إذاعي أو تلفازي أو غير ذلك، وكم تسبب الخلل في هذا الباب من مصائب وكوارث على المجتمعات والأوطان بسبب مناهج التغيير الخاطئة، التي تقوم بعضها على الثورات وأخرى على الإرهاب والعنف وثالثة على التحزب والتنظيمات السرية ورابعة على الإثارة والتحريض وخامسة على المتاجرة بالدين والحريات وسادسة على التلاعب بالعواطف وغسل الأدمغة، وكلها مناهج سلبية تفتقد للعلم والحكمة، فلا هي قائمة على موازين علمية صحيحة، ولا هي تراعي المصالح العليا والمقاصد الكبرى.

ومن المجالات المهمة كذلك في هذا الباب الأسرة، فإن الأب والأم أحوج ما يكونان إلى العلم والحكمة، ليكونا قادرين على بناء حياة سعيدة، وتحقيق الترابط الأسري، وحل المشكلات بالطرق المثلى، والتعامل السديد مع الأبناء، واحتوائهم، ليكونا الحضن الدافئ لهم، ويقودا سفينة الأسرة إلى بر الأمان.

ومن المجالات العصرية كذلك الفضاء الإلكتروني، وخاصة مواقع التواصل الاجتماعي، فلا ينشر الإنسان فيه إلا ما يعلم صحته، وما يفيد مجتمعه ووطنه، ولا ينجر وراء الشائعات والأكاذيب والمعلومات المغلوطة، ولا ينشر ما هب ودب، بل يجعل العلم والحكمة ميزانه.

وأخيراً فإذا ذُكر العلم والحكمة ذُكر الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان (طيب الله ثراه)، مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة، الذي لُقب بحكيم العرب، وحض على العلم والأخلاق، حتى غدت دولة الإمارات دولة العلم والحكمة.

Email