أوروبا وبريطانيا وأمريكا وشبح الفوضى

ت + ت - الحجم الطبيعي

مع أزمة «البريكست» لم يعد الحديث عن خطر الفوضى ضرباً من الخيال، بل أصبح هو الاحتمال الأكبر. ليس فقط في بريطانيا، وإنما كل أوروبا تدخل معها في قلب دائرة الخطر!وسواء خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي باتفاق أو من دون اتفاق «وهذا هو الأرجح حتى الآن»، فإن الآثار السلبية هائلة،

والخسائر الاقتصادية فادحة للجانبين، والتعامل معها سوف يستغرق سنوات، وسوف يحتاج لجهود خارقة ولتكلفة عالية. وهذا إذا توافر الاستقرار وإذا لم تصطدم أوروبا وبريطانيا بالأسوأ في ظل عالم يمر بمرحلة شديدة الاضطراب.

الخسائر الاقتصادية لأزمة «البريكست» ستكون فادحة بالتأكيد. لكن الأخطر هو ما يمكن أن يترافق معها من آثار سياسية واستراتيجية تقود الجميع إلى حالة الفوضى الشاملة، والأسوأ من النتائج الاقتصادية الكارثية لأزمة «البريكست»، هو أنها تأتي في ظروف بالغة الدقة والخطورة بالنسبة لأوروبا وللعالم كله.

اليمين المتطرف يزداد قوة في كل دول أوروبا، ومعه تزداد النزعات العنصرية وتعلو الأصوات في دول أوروبا كثيرة تطالب بالسير في الطريق البريطاني والخروج من الاتحاد الأوروبي، يستغل اليمين المتطرف الأزمة التي وصل إليها النظام الدولي الباحث عن طريق جديد.

ويستغل كارثة الإرهاب الذي يحاولون أن يجعلوه إسلامياً، وهم أول من يدرك أنه كان صناعة غربية بامتياز (!!) لكن الصراعات السياسية والاجتماعية الداخلية في أوروبا الآن تجعل من «الإسلاموفوبيا» عنصراً في السباق نحو السلطة، وعاملاً في نشر الأفكار العنصرية التي تغزو الآن الشارع الأوروبي ومعها الدعوة إلى أن يكون «البريكست» هو الحل الذي تسير فيه دول أوروبا بدلاً من أن تتصدى له!!

وهكذا تأتي الأزمة مع بريطانيا، بينما فرنسا تواجه ظاهرة «السترات الصفراء» التي تهدد استقرارها، والقطب الآخر الألماني يواجه صعوداً كبيراً لقوى اليمين الألماني «بذكرياته المأساوية مع العالم كله»، وباقي الدول الأوروبية تتحسب للمقبل. خاصة إذا اهتزت القيادة السياسية للاتحاد «ممثلة في فرنسا» والسند الاقتصادي ممثلاً في ألمانيا.

والأسوأ هنا أن أوروبا تفتقد السند الأساسي الذي كانت تستند إليه منذ الحرب العالمية الثانية، وهو التحالف الذي بدا مصيرياً بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية. هذا التحالف الذي بنى أوروبا بعد الحرب، والذي حقق للولايات المتحدة الزعامة، واستطاع أن ينهي الحرب الباردة لصالحه فيما اعتبر نصراً نهائياً للحضارة الغربية.

يغيب ذلك كله الآن، التحالف الأمريكي – الأوروبي لم يعد فاعلاً، مصير حلف «الناتو» نفسه أصبح موضع تساؤل. الحرب التجارية التي قامت بين طرفي التحالف تنهك أوروبا.

ما تواجهه أوروبا وبريطانيا من حالة انقسام مجتمعي حاد، يحدث مثله الآن في الولايات المتحدة، وحالة عدم اليقين تنتقل إلى الدولة الأعظم. والقرار الأمريكي الذي كان ضمانة استقرار بالنسبة للعالم الغربي كله على الأقل، يتحول الآن إلى عامل اضطراب حتى لأقرب الحلفاء!

قد تكون حالة الإغلاق الجزئي لمؤسسات حكومية عدة قد حدثت من قبل مرات عدة، لكنها هذه المرة تختلف.. الخلاف هذه المرة يجسد صراعاً حاداً على مستقبل الدولة الأعظم، وعلى رؤيتها للعالم، وعلى دورها المحوري في إدارة الصراعات الدولية في مرحلة بالغة الخطورة في تاريخ الإنسانية.

بعد عامين من حكم ترامب، كان متوقعاً أن يفوز الديمقراطيون بأحد مجلسي الكونغرس على الأقل، وأن تتصاعد المنافسة بين الحزبين الكبيرين «الجمهوري والديمقراطي» استعداداً لانتخابات الرئاسة المقبلة، وأن تكون هناك أزمات.. خاصة مع تطورات التحقيقات في قضية التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة الماضية دعماً لترامب.

لكن غير المتوقع هو ما نشاهده على الساحة الأمريكية الآن. فبدلاً من إدارة الصراع بطريقة حكيمة نجد تصعيداً في المواقف يبدو فيه الجانبان وكأنهما يسيران إلى معركة «تكسير عظام»، البعض في أمريكا يسمى ما يحدث الآن بأنه تعبير عن «مراهقة سياسية» يقصدون بذلك التراشق بين ترامب ورئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي التي طلبت من الرئيس تأجيل خطابه السنوي الذي يلقيه في العادة أمام المجلس، فكان الرد الترامبي هو إلغاء جولة رسمية مقررة لها إلى بلجيكا ومصر والفلبين!! ويقصدون بذلك أيضاً القرار الآخر بعدم المشاركة في منتدى دافوس في اجتماع قد يكون الأخطر في تاريخه.

هذه القرارات، ومعها خطابات الهجوم المتبادلة بين الطرفين أكبر من أن تكون «مراهقة سياسية» إنها التعبير عن وصول الصراع داخل الولايات المتحدة إلى نقطة خطيرة. الرئيس ترامب – من البداية – قادم من خارج الحزب الجمهوري، وهو يمضي في تطبيق ما أطلق عليه برنامج استعادة أمريكا الأعظم، والديمقراطيون «ومعهم جزء من الجمهوريين المعتدلين» يعارضون كل توجهات هذا البرنامج على أمريكا ومستقبلها ومصالحها في العالم.

وتزداد المخاوف من احتمال دخول العالم في أتون أزمات كبرى اقتصادية وسياسية، في ظل صراعات معلنة مع قوى كبرى مثل الصين وروسيا ومع إرهاب عالمي وقوى دولية داعمة له مثل إيران، وتزداد المخاوف من تصاعد الأداء المضطرب مع اقتراب التحقيقات في قضايا ترامب والتدخل الروسي، ويريد الديمقراطيون استباق الأمر وإغلاق الطريق أمام أي احتمال لقرارات منفردة تدخل أمريكا في صراعات أو تخلق أزمات خطيرة لخلط الأوراق في مواجهة تداعيات قضية التدخل الروسي!!

ليس الأمر مراهقة سياسية فقط، إنه التعبير عن الانقسام الحاد في المجتمع الأمريكي، وعن توجه الصراع نحو منطقة الخطر.

Email