مبادئ الحكم الرشيد

ت + ت - الحجم الطبيعي

تقدم الدول لا يقاس بحجم اقتصادها وعظمة بنيتها التحتية ولا حتى بعدد خريجي جامعاتها فحسب، بل أيضاً يقاس بمدى تطور مؤسساتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبمدى تطور مجتمعها المدني. وبعد أن قادت دبي المنطقة في التطوّر المادي، تعكف الآن لتشييد نظام سياسي مؤسساتي يعكس مدى التطور الذي تحقق في دولة الإمارات بشكل عام.

الحكم الرشيد متأصل في الثقافة العربية والإسلامية، بعكس الأنظمة المستوردة، والتي لم تحقق الكثير من النجاحات، إما بسبب غرابة البيئة التي تطبق فيه هذه الأنظمة، أو ضعف كفاءة مطبقيها. ويجب أن نحتفي في عالمنا العربي بأي إنجاز وإضافة نوعية، ونتعلّم من بعضنا لحاجتنا الفائقة للحاق بركب الحضارة، وتعزيز الاستقرار وتحقيق التنمية الشاملة.

ويصبّ إعلان صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، مبادئ الحكم الثمانية لدبي في مضمار تحديث المؤسسات السياسية لتأتي مواكبة لما حققته دبي. ويرى علماء الاجتماع والسياسة أن انسجام معدلات التحديث الاقتصادي والاجتماعي مع معدلات تحديث المؤسسات السياسية أساس للاستقرار والمزيد من النماء والاستدامة.

وقد أتت الوثيقة بعد خمسين عاماً من الممارسة والخبرة السياسية للشيخ محمد بن راشد، وما علّمته التجارب العديدة وهو في موقع المسؤولية العامة. وكما قال سموه في الوثيقة، تيمناً بالخمسين عاماً في الخدمة، أسميت بوثيقة الخمسين. والوثيقة خاصة بإمارة دبي، ولكنها واعية أنها جزء من كل، وأن الكل يعاضد الجزء، والجزء ركن للكل. فلذا أتى أول مبادئ الحكم بإعلان واضح وصريح بأن دبي جزء لا يجتزئ من دولة الإمارات العربية المتحدة. وهنا تأكيد على الوحدة الوطنية ووحدة المصير.

والعنوان البارز للحكم الرشيد هو حكم القانون، والذي لا يفرق بين قوي وضعيف ولا على أسس عرقية أو طائفية أو جنسية؛ فالجميع متساوون أمام القانون. وهذه مسألة أساسية لأي حكم، والذي يكون أساسه العدل. ولا يستقيم الحكم بدون العدل وبدون حكم القانون؛ وهو ما يوائم ثقافة وحضارة البلاد وموروثها التاريخي.

من الصحيح القول ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، ولكن أيضاً بدونه يهلك. وقد جاء المبدأ الثالث ليؤكد على الأهمية الاقتصادية للمجتمع والدولة. وأن الأداء الاقتصادي وتحسينه هي من قوام الأمور واستقامتها. وتوفير الحياة الكريمة وتكافؤ الفرص بين المواطنين مهمة لتمكين واستقرار الفرد والمجتمع.

وعطفاً على المبدأ السابق فإن دبي ترى نفسها مجالاً رحباً وأفقاً واسعاً لرواد الأعمال المحليين والمستثمرين من الخارج. وتمنح الفرص للجميع لإثبات كفاءتهم وتحقيق طموحهم. ولا يقتصر هذا على فئة دون أخرى. بل إن الأبواب مشرعة لكل من يسهم بشكل إيجابي لنهضة الإمارة وتقدمها ورقيها. وترى في الحكومة شريكاً مع القطاع الفردي والخاص في عملية البناء والتطور، وتسهّل من تحسين الاقتصاد بشكل مثابر وكفؤ.

أما المبدأ الخامس هو غرس مفاهيم إيجابية في المجتمع، بحيث إن الأفراد والجماعات يسعون إلى أهداف تحقق سعادتهم. ولا ينخرطون في تنميط الناس على أسس دينية أو عرقية أو طائفية. فالمجتمع الذي تنشده دبي هو مجتمع متفرد ينأى بنفسه عن الصراعات الإقليمية التي تموج بها المنطقة دون طائل أو مردود. وكما تعلن الوثيقة: «لا يجوز لأحد أن يحكم على أحد أو يحاكمه، إلا من خوّلناه القضاء أو كلفناه تطبيق العدالة». وأن الأصل في الإنسان الخير. وكما قال سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، «الناس صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق».

المبدأ السادس يعود بنا إلى الاقتصاد؛ فتحسين الأداء الاقتصادي يشمل تنويع مصادره. ولا يمكن لدولة أن تعيش على مصدر واحد، كالنفط أو محصول زراعي وحيد، وتعرض نفسها لتقلبات السوق وتقويض اقتصادها حسب العرض والطلب لتلك السلعة. فمن الحصافة أن تتمتع الدولة بمصادر متعددة من الموارد الطبيعية، والصناعة، والزراعة، والخدمات، والسياحة لتضمن استقرار مواردها المالية، وجلب الوظائف لمواطنيها ودعم العيش الكريم لأبنائها والمقيمين على أرضها. وتدعو الوثيقة إلى برنامج طموح لإيجاد قطاع منتج جديد كل ثلاث سنوات يساهم في الناتج المحلي ويوفر وظائف جديدة للراغبين.

والمبدأ السابع يدعو إلى جعل دبي قبلة للحالمين والواعدين. فخلق بيئة تشجع على الابتكار والاختراع والإيجابية. فهذه البيئة كفيلة بدفع الإمارة إلى أعلى المصاف بين الدول المتقدمة جداً. وبيئة كهذه تضمن لمواطنيها مستوى عالياً من المعيشة والاستمتاع بما وهب الله الإنسان من عقل وتفكر وتحقيق ذاته وطموحه المادي والمعنوي. ولنا في اليابان وكوريا الجنوبية أفضل مثالين في دولتين افتقرتا لموارد طبيعية وكانتا متخلفتين إلى وقت قريب، ثم أضحتا من أهم دول العالم لأنهما خلقتا بيئة تشجع على الإبداع.

وأخيراً، فإن المبدأ الثامن هو هدف العملية التنموية برمتها، وهو الإنسان ومستقبله. ولا ترى الوثيقة أن من الواجب ترك أفراد المجتمع في مهب الريح تتدافع بهم خطوب الزمان، بل يجب التخطيط والتخطيط السليم الذي يضمن ديمومة الرخاء والاستقرار لمواطني ومقيمي هذه الأرض الطيبة.

ما ورد على لسان صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم هو الأساس للحكم الرشيد. ومن الواجب مناقشة هذه الوثيقة في الجامعات، ومراكز الفكر والإعلام العالمي. ولعلها المخرج لمحن المنطقة المتكالبة عليها.

* كاتب وأكاديمي

Email