انسحاب أميركي مفاجئ من سوريا

ت + ت - الحجم الطبيعي

قرار الرئيس الأميركي بسحب قوات بلاده من سوريا في التاسع عشر من ديسمبر الجاري، مبرراً ذلك بالقضاء على تنظيم داعش، لم يحظ بموافقة طاقمه الأمني ولا بموافقة حلفائه.

القرار لم يكن ارتجالياً كما يتصور البعض، فالملف السوري كان له حضور في الحملة الانتخابية الرئاسية عام 2016، فالرئيس ترامب كان معارضاً للوجود الأميركي في سوريا. إلا أن القرار لم يتخذ من خلال سياقات اتخاذ قرارات على هذا المستوى من الأهمية، فالرئيس لم يستأنس بآراء مستشاريه أو حلفائه سوى بالرئيس التركي الذي فوضه هاتفياً استكمال مهمات القوات الأميركية المنسحبة.

من المرجح أن الانسحاب يعني التخلي كلياً عن المسؤولية في سوريا في ضوء تصريحات الرئيس الأميركي بأن على الآخرين قتال تنظيم داعش، وفي ضوء التلميحات الصادرة عن الحكومة العراقية حول احتمال نشر قوات عراقية داخل سوريا إلا أنه ليس من المعروف إن كانت الولايات المتحدة تتخلى كذلك عن دورها في الدعم الجوي والاستخباري والاستشاري.

أحد أبرز التداعيات الفورية لهذا القرار استقالة وزير الدفاع جيمس ماتيس الذي أشار في خطاب استقالته إلى ضرورة أن تحافظ الولايات المتحدة على تحالفاتها وتظهر احترامها لهؤلاء الحلفاء. وكان الوزير قد سبق أن حذر في وقت سابق من أن الانسحاب المبكر من سوريا سيكون بمثابة خطأ استراتيجي فادح. وقد تلى ذلك استقالة بيرك ماكورغك موفد الولايات المتحدة لدى التحالف الدولي ضد تنظيم داعش.

وفي الوقت الذي رحبت به موسكو بالقرار الأميركي معتبرة إياه عاملاً مهماً في تسهيل التوصل إلى تسوية سياسية في سوريا، فوجئ حلفاء واشنطن بهذا القرار الذي استند وفق تصريح الرئيس ترامب إلى ما لم يتفق هؤلاء الحلفاء في استنتاجه وهو القضاء على تنظيم داعش.

فهؤلاء يرون أن تنظيم داعش لم ينتهِ، فهو موجود في الصحاري وعلى الحدود بين العراق وسوريا وقد تغيرت استراتيجيته وطبيعة العمليات التي ينفذها.

قرار الانسحاب يضفي المزيد من الغموض على مستقبل الوجود الأميركي في المنطقة إذ طالما ربطت الولايات المتحدة وجودها العسكري في سوريا بهدفين، أولهما قتال تنظيم داعش، وثانيهما ضمان التوصل لتسوية سياسية مقبولة من الفرقاء السوريين. ولو افترضنا صحة استنتاج إدارة ترامب بهزيمة تنظيم داعش، فماذا عن التسوية المرضية في سوريا.

وقد أصبح الملف السوري بكامله بيد النظام وحلفائه روسيا وإيران، وتركيا التي تقترب منه. فالدور السياسي الذي يمكن للولايات المتحدة أن تلعبه في سوريا مرتبط إلى حد كبير بوجودها عسكرياً في الأراضي السورية.

انسحاب القوات الأميركية رغم قلة عددها (ألفي عسكري) يترك تداعيات سياسية مهمة على عموم التوازنات في سوريا وفي المنطقة، فالوجود اللوجستي لواشنطن أكثر أهمية من حجم قواتها عددياً لأنها تمتلك عدداً من القواعد الجوية. تخلي واشنطن عن لعب دور في الساحة السورية يفتح الأبواب مشرعة على تحولات كبيرة في التحالفات ويُقرب موعد استحقاقات قتالية قائمة تتداخل فيها إسرائيل وإيران وتركيا وروسيا وقوات النظام والكرد والميليشيات غير السورية، وهي دوامة لن يكون بمقدور روسيا لوحدها التعامل معها باعتبارها صاحبة القرار بمستقبل الملف السوري.

يأتي هذا الإعلان في أجواء تعبئة سياسية وإعلامية لتقبل تصعيد سياسي وعسكري كبير في المنطقة، إسرائيل في طريقها للتصعيد ضد الوجود الإيراني في سوريا، وتركيا من جانبها تتهيأ لعمليات واسعة شرق نهر الفرات، وهناك تصاعد في الاستعدادات التي تتخذها كل من واشنطن وطهران لمواجهة مرتقبة مع دخول حاملة الطائرات الأميركية جون سي ستينيس الخليج العربي لأول مرة منذ عام 2001.

أولى ضحايا هذا الانسحاب هي قوات سوريا الديمقراطية التي يشكل الكرد عمودها الفقري، وهي قوات غير مرحب بوجودها من قبل الجميع تقريباً بما فيهم النظام السوري وقوى الثورة السورية المعادية للنظام، فقد أصبحت هذه القوات مكشوفة أمام قوى لا قبل لها بمواجهتها سواء شرق الفرات أو غربه.

قد يكون من السابق لأوانه الحديث عن مستقبل الصلة بين هذه القوات وبين فرنسا التي أعربت عن نوايا لنشر قواتها شمال سوريا، والتي أغضبت أنقرة أشد الغضب. فرنسا تستطيع تأمين غطاء جوي للقوات الكردية في حربها على داعش إلا أنها لا تستطيع ذلك في حالة المواجهة مع تركيا، في ضوء ذلك قد تجد هذه القوات أن الخيار الوحيد أمامها هو تخفيض سقف طموحاتها والعودة للتنسيق مع النظام السوري القائم.

* كاتب عراقي

 

Email