لغتنا الجميلة

ت + ت - الحجم الطبيعي

أيام قليلة وينتهي العام الجاري ليبدأ العام الجديد. ولأن التمسك بالأحلام بات وسيلة البشر الشائعة، للتحايل على نواميس الكون الغلابة، والتصدي للشرور التي تملأ عالمهم، دون أن يتوقفوا لتأمل مدى قابلية تلك الأحلام للتحقق.

ولعل التوقف لتأمل ما يجري حولي، قد ساهم بشكل أو بآخر أن تتضاءل أحلامي هذا العام إلى حدود دنيا بالدعاء والتمني، أن يكون العام المقبل أقل سوءاً من نظيره الذي أوشك على الرحيل بعد أن تكسرت على عتبات السنة الراحلة في أنحاء الأمة والوطن، الدموع على الضحكات، والهزائم على الانتصارات، وامتلأت القلوب بمخزون لا ينضب من الأحلام العربية المؤجلة.

لكن العام الذي يلملم أشلاءه ليغادرنا انطوى على احتفال دولي يبعث على الفرح في معانيه ودلالاته، إنه الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية الذي يصادف 18 ديسمبر من كل عام.

ففي مثل هذا اليوم عام 1973، اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً بأن تصبح اللغة العربية لغة رسمية في الهيئة الدولية بجانب اللغات الأخرى، تقديراً منها للدور الذي تلعبه العربية في حفظ الحضارة الإنسانية ونشر ثقافتها.

كما اعتمدت الأمم المتحدة بالاتفاق مع منظمة اليونيسكو منذ العام 2010 ذلك اليوم عيداً يتم الاحتفال السنوي به. أما السبب الذي دفع الهيئة الدولية لاتخاذ ذلك القرار، فهو التضامن العربي الواسع والممنهج والخلاق، الذي التف حول الجيش المصري، فأنجز نصر أكتوبر العظيم.

أحببت اللغة العربية من مصدرين، ليس بينهما الكتب المدرسية التي كانت تفرض علينا نصوصاً نحفظها دون أن نتذوقها أو حتى نفهمها.

الأول هو أبي الذي عشق اللغة العربية، ليس لأنه كان معلماً لها فقط، بل لأنه كان شاعراً مولعاً بقراءة كتب التراث العربي والإسلامي، وفي القلب منها بطبيعة الحال دواوين العرب الشعرية، وكان ينشر قصائده في مجلة الرسالة، التي فتحت صفحاتها لإبداعات معلمي الريف المصري.

وكانت أجمل الأمسيات في بيت أبي، تلك التي يتلو علينا معلقة لأحد شعراء العصر الجاهلي، أو نصاً قرآنياً، ليكشف لنا من خلاله عن موطن الثراء في اللغة، ويدعونا للتأمل في جمال مفرداتها، وتنوع معانيها، واستخداماتها المختلفة.

وقبل أن ينتصف الليل بساعة إلا خمس دقائق، أدير مؤشر الراديو كل يوم على موجة البرنامج العام للاستماع إلى برنامج الشاعر والإعلامي القدير الراحل فاروق شوشة «لغتنا الجميلة»، الذي تم بث أولى حلقاته بعد أشهر قليلة من هزيمة يونيو عام 1967، سعياً كما قال فاروق شوشة، لمد الجسور بين القيم المعرفية السائدة وبين التراث.

ومن صوت فاروق شوشة العذب والرخيم، ومن رقي ذائقته الجمالية، التي تجلت في اختياراته للنصوص الشعرية والنثرية التي يتلوها ويبسط فهمها خلال خمس دقائق فقط، تشكل المصدر الثاني الذي ما زال يمدني بثروة معرفية متجددة لتلمس موطن الجمال في اللغة العربية، الذي أجمله حافظ إبراهيم في بيت الشعر الشهير الذي أصبح شعاراً للبرنامج، وفيه تتحدث العربية عن نفسها:

أنا البحر في أحشائه الدر كامن .. فهل ساءلوا الغواص عن صدفاته.

أدركت منذ وقت مبكر أن طلاوة الصوت ورخاوته تلعبان دوراً مؤثراً في محبة اللغة، أي لغة. حدث لي ذلك الأثر حين كنت أشاهد فيلم دعاء الكروان للمرة الأولى، حيث بلغ بي الـتأثر ذروته وصوت طه حسين الساحر المؤثر يملأني بالنشوة، وهو يقول في المشهد الختامي للفيلم: دعاء الكروان.. «أترينه كان يُرجع صوته هذا الترجيع حين صُرعت هنادي في ذلك الفضاء العريض».

وحين غنت «أم كلثوم» قصيدة أبي فراس الحمداني الشهيرة «أراك عصي الدمع»، وجدت «عم سعيد» حارس العقار الذي كنا نسكن به، يشدو بأبيات من القصيدة بفصحى سليمة تماماً، رغم أنه لا يقرأ ولا يكتب.

قبل عقود دعا العميد طه حسين إلى فكرة كان يعتقد أنها تيسر اللغة وتساعد في سهولة تعلمها، فطالب بكتابة كلمات العربية كما يتم نطقها، فنكتب طاها بدلاً من طه، ونكتب لاكن وليس لكن. إلخ، لكن الهجوم على الفكرة الذي قاده مفكر في حجم العقاد قمعها وأوقف تداولها، لتلقى حتفها جنباً إلى جنب دعوة منصور فهمي لكتابة العربية بالحروف اللاتينية.

لكن الخوف على اللغة العربية لا يأتي من تلك الاجتهادات، لكن يكمن في العقليات التي ترى الجهل بها مجالاً للفخر، طالما نتقن لغة أجنبية، ومن لغة لا تشبهنا يروج لها جيل جديد من الشباب العربي، وهو ما يدفع إلى الانتباه، ويحفز لجعل شهور السنة كلها مناسبة للمحبة والاحتفاء بلغتنا الجميلة.

 

 

Email