«العربي» صبية فاتنة في الستين

ت + ت - الحجم الطبيعي

فرّقتنا السياسة، وجمعتنا «العربي» من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، من المشرق العربي إلى المغرب وما توسطهما من دولنا العربية. بعد عشرة أشهر من قيام الوحدة السورية المصرية، ظهر العدد الأول من مجلة «العربي» في ديسمبر عام 1958.

كان محمد عبد الوهاب يشدو آنذاك بأشعار كامل الشناوي: لا تسلني ما الذي وحّدنا قلباً وصفاً، سل جموع الشهداء، سل دموع الأبرياء، سل دم السوري والمصري، يجري لهباً، صارخاً، عرباً كنا ونبقى عرباً.. وعلى ضوء لهيب تلك الصرخة، ظهرت مجلة «العربي» الكويتية.

لا أعرف من هو العروبي النابه الفطن الذي اختار لها الاسم «العربي»، لكن كل ما أعرفه، هو أنني حين تصفّحت في صباي أحد أعدادها للمرة الأولى، شعرت أنها تحدثني، تهتم بي بمشاعري واحتياجاتي المعرفية، تخصّني وحدي بما تكتب وتنشر، تتوجه لي، أنا العربية، وله هو العربي، ولكم جميعاً كل العرب داخل منطقتنا وخارجها، على اختلاف أعمارنا وأفكارنا وثقافتنا واهتماماتنا وأدياننا ومذاهبنا وقومياتنا، ترضي طموحاتنا المعرفية جميعاً، بدفقة هائلة من الجمال المعرفي والاستنارة واستشراف المستقبل، والذوق الصحافي الرفيع.

كانت مجلة الرسالة المصرية، لمؤسسها أحمد حسن الزيات قد توقفت في العام 1953 بعد نحو عشرين عاماً من الصدور المنتظم كواحدة من المطبوعات الأسبوعية الرائدة في المجالات الثقافية والأدبية في مصر والمنطقة العربية. وكانت الرسالة - كما ستغدو العربي فيما بعد - منبراً لحرية التعبير والرأي لرموز الفكر والأدب والثقافة والفنون من المبدعين العرب في كل المجالات.

ومن قلب مدرسة الرسالة التجديدية في مجالات النقد الأدبي والشعر والقصة والرواية والكتابة الصحافية، وتناول التراث الديني والتاريخي والعلوم النظرية والاجتماعية، تخرّج الكيميائي المصري الدكتور أحمد زكي أول رئيس تحرير لمجلة العربي الكويتية.

ولعله ليس من باب المصادفات أن تكون دار سعاد الصباح للنشر والتوزيع الكويتية، هي من تولى تمويل وجمع وتصوير مجلدات مجلة الرسالة، وحفظها من التبديد والاندثار، ليتعزز بذلك الدور الكويتي في دعم الثقافة والمعرفة على النطاق العربي.

كانت «العربي» تدرك عند بدء إصدارها أنها تحمل على عاتقها مهمة إتمام الدور الذي توقفت «الرسالة» بسبب ظروف غير مواتية، عن مواصلته. وكان التحدي الأول الذي واجهته هي كيف تحتفظ باستقلالها وحيويتها وقدرتها على الجذب والتأثير، ومن يصدرها ويمولها جهاز رسمي هو وزارة الإعلام الكويتية.

لكن ما يحسب للجهة الرسمية التي احتضنت المجلة وموّلتها ودعمتها، وعززت قدرتها على الصمود والمنافسة، هو بعد نظرها، ورؤيتها الواضحة والواسعة الأفق لدور الدولة الثقافي، لاسيما في منطقة مضطربة كمنطقتنا.

وقد ترتب على هذا الفهم الديمقراطي الحر للثقافة أن أضحت «العربي» مؤسسة ثقافية خدمية، لا تهدف إلى الربح المادي - لايزال ثمنها في القاهرة 125قرشاً فقط - بل تكتفي بجني الأرباح المعنوية، من نشر ثقافة المعرفة بكل فروعها، وباستخدام أحدث الأساليب الصحافية تطوراً في مجالات الطباعة والإخراج الصحافي والتصوير والرسوم التعبيرية.

وكان من المنطقي أن تجعل كل تلك الفنون التعبيرية من صفحات المجلة معرضاً فنياً ينطوي على رؤية جمالية لصور ولوحات تشكيلية، تسر عين متصفحها وتبهج روحه، حين تغمره ألوانها وتنسيقها المفعم بالجمال، بذلك الإحساس الغريب بالسعادة، الذي يقول طه حسين إنه يراودنا، فيما تشغلنا ظروف الحياة عن أن نكون أشقياء.

وبتلك التقنيات الفنية والمهنية المتطورة، أتاحت العربي لقارئها التعرف على مبدعي أمته، وتسنى له كذلك أن يجول مع كتابها وهو في مقعده في البيت، قارات الدنيا السبع لمعرفة تقاليد وثقافات وأعراف بلاد العالم ومدنها وآثارها ومتاحفها، ويطلع على أحدث النظريات العلمية المعقدة بشكل بسيط، يجمع ما بين عذوبة الأسلوب الأدبي ودقة ووضوح الأسلوب العملي المتخصص.

هذا فضلاً عن الأبواب التي اهتمت بالطفولة والأسرة والتقاليد الاجتماعية العربية، مما جعلها بحق مجلة ثقافية عامة لكل أفراد الأسرة العربية، وربما لأجل كل هذا يكمن السر في مجلة العربي، الشابة الفاتنة التي نجحت في لملمة شتات التمزق العربي، فتجاوزته بالمراهنة على كسب جبهة الثقافة والفكر.

ولأن المناسبات السعيدة باتت قليلة في ساحتنا العربية، فإن خبر وصول مجلة العربي لسن الستين، يعد من الأخبار الباعثة على البهجة والفرح، ليس فقط لأن عقود عمرها الستة لم تفقدها ألقها وحيويتها واتساع انتشارها، وتصدرها لكل الإصدارات الثقافية المماثلة، بل لأنه يكشف أيضاً أن الجهود الرسمية العربية على جبهة الفكر والثقافة، توحّد ما فرقته السياسة، وتثمر دوماً، وتنير ظلام منطقتنا الحالك.

 

 

 

Email