السترة الصفراء تهز القارة الأوروبية

ت + ت - الحجم الطبيعي

ثورة السترات الصفر في فرنسا التي تشغل الرأي العالم العالمي منذ انطلقت في السابع عشر من نوفمبر الماضي، أصبحت رمزاً احتجاجياً بارزاً في الشارع الفرنسي والأوروبي في فترة وجيزة جداً.

هذه الحركة الحديثة التشكيل تعبر عن توجه شعبوي بدأ يظهر في أكثر من بلد أوروبي ليفرض حضوراً على المشهد السياسي بمطالب تحظى بقبول جماهيري واسع. فقد انطلقت هذه الاحتجاجات تعبيراً عن التذمر الشديد من سياسات الرئيس ماكرون الاقتصادية التي تضررت منها الطبقة الفقيرة والمتوسطة جراء تردي مستوى المعيشة وانتشار البطالة.

«السترات الصفر» حركة غير سياسية وغير نقابية طابعها احتجاجي اجتماعي للإصلاح، وهي حركة عفوية بكل معنى الكلمة، إذ لم تتشكل بتحريض من قبل أحزاب اليمين أو أحزاب اليسار فهذه الأحزاب بتاريخها وبأجندتها غير قادرة على إخراج هذه الجماهير الغفيرة في عدد من المدن الفرنسية للتظاهر خاصة العاصمة باريس.

هذه الأحزاب قد فشلت مؤخراً في الإتيان برئيس للجمهورية من إحداها كما جرت العادة، فالجمهور توجه نحو انتخاب مانويل ماكرون وحمله إلى سدة الحكم ليس حباً به، بل لأنه من خارج الوسط السياسي التقليدي الذي تسيطر عليه هذه الأحزاب معبرة بذلك عن إحباطها إزاء أدائها.

حركات الاحتجاج أو التمرد أو الانقلاب أو الثورة على الأوضاع القائمة بدأت ترتدي بعد حقبة الحرب الباردة حلة جديدة تتميز بها، وهو اختيار أحد الألوان المؤثرة في الوسط الشعبي رمزاً لها، كما في الثورة الوردية في جورجيا والثورة البرتقالية في أوكرانيا والثورة الخضراء في إيران وغير ذلك.

متظاهرو فرنسا ارتدوا سترة الأمان الصفراء المطلوبة في كل سيارة حسب القانون الفرنسي ليصبح اللون الأصفر رمزاً لها، لون مميز جداً فشبكية العين البشرية لها حساسية قصوى لهذا اللون الأكثر وفرة وسطوعاً في الطيف الشمسي.

الرئيس ماكرون يواجه أزمة ثقة مع الجمهور الذي انتخبه قبل عامين، فهناك من يلوم إدارته على تفاقم الأزمة لفشلها في مواجهتها وعدم تقدير حجم تداعياتها، معتبرة إياها حركة احتجاجية كباقي الحركات التي خبرتها الإدارات الفرنسية في الماضي.

فقد وصف أدوارد فيليب رئيس الوزراء في أحد لقاءاته الصحفية هؤلاء المتظاهرين بأنهم مجموعة «مشاغبين لا تحركهم سوى المنافع الاقتصادية والمقاصد غير الأخلاقية، وإنهم يستغلون الفوضى من أجل نهب المحلات التجارية».

صحيح أن هذه الحركة الاحتجاجية قد اخترقت من قبل أحزاب اليمين وأحزاب اليسار المتطرفة ومن قبل عناصر تخريبية قامت بإضرام الحرائق ونهب المحلات التجارية.

إلا أن ذلك لا يلغي حقيقة أن التظاهرات رفعت مطالب اقتصادية جوهرية اصطف خلفها مئات الألوف من الفرنسيين، وهي مطالب لم يتردد الرئيس ماكرون في خطابه الأخير على خلاف رئيس وزرائه من الاستجابة لبعضها والوعد بتقديم المزيد لاحقاً.

إدارة ماكرون لم تلغِ قرار زيادة أسعار المحروقات وهو القرار الذي فجر الأوضاع، بل أجلت تنفيذه مدة ستة أشهر، فهذا القرار جاء التزاماً من قبلها بتنفيذ اتفاقية باريس للحد من ظاهرة الاحتباس الحراري لتوفير الأموال اللازمة للاستثمار في برامج الطاقة المتجددة الذي كانت العاصمة الفرنسية مهندستها.

ما يجري في فرنسا له تأثير كبير على كل القارة الأوروبية، وذلك لأهمية فرنسا فيها، فحركة السترات الصفر في أسبوعها الرابع قد فجرت فعلاً مثيلات لها في كل من هولندا وبلجيكا وربما تفجر ذلك في دول أوروبية أخرى لا تقل مشاكلها الاقتصادية عن مشاكل فرنسا.

خطاب الرئيس ماكرون مساء العاشر من ديسمبر الجاري الذي وصف إعلامياً بأنه خطاب استرضائي اعتذاري كان مخيباً للآمال ولم يكن مقنعاً للسترات الصفر، حسب ما صدر عن عدد ممن يتحدثون على منابرها، الذين أعلنوا عزمهم على الاستمرار بتظاهراتهم وتصعيدها.

السترات الصفر تقدمت بمطالب اقتصادية ذات صلة بسوء أوضاعها المعيشية، مطالب ليس فيها سوى شعار سياسي واحد لم يطرح في بداية الحملة، ولكنه طرح مؤخراً إثر تزايد عنف الأجهزة الأمنية في التصدي لها وهو مطالبة الرئيس ماكرون بالرحيل.

الأسابيع المقبلة ستبين ما إذا كانت هذه الحركة الاحتجاجية قادرة على الحفاظ على زخمها أم ستعجز عن ذلك؟ فالاستمرار بنفس الزخم مؤشر على تداعيات قد لا تقتصر على الإضرار بالمستقبل السياسي للرئيس ماكرون بل قد تتجاوز ذلك إلى مستقبل الجمهورية الخامسة نفسها.

 كاتب عراقي

 

Email