Ⅶ تحليل

احتجاجات باريس.. مأزق أم حق ديمقراطي؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

تفجّرت التظاهرات في وجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، احتجاجاً على سياساته الاقتصادية، الأمر الذي أجبره على تأجيل تطبيق ضريبة الوقود، التي مثلت أحد الأركان الأساسية لإصلاحاته الاقتصادية.

تراجع ماكرون لم يكن كافياً، فواصل المتظاهرون احتجاجاتهم، وواصلوا رفع الشعارات المطالبة برحيله.

تجاوزت احتجاجات باريس مرحلة النضال المطلبي من أجل إعادة توزيع الثروة، ودخلت في مرحلة النضال الثوري، الذي يستهدف الانقلاب على سلطة منتخبة وتقويض الديمقراطية ومصادرة حق الناخبين في الاختيار. لقد تجاوزت احتجاجات باريس مرحلة الحق الديمقراطي، الذي يمارسه مواطنون، وتحولت إلى مأزق يواجه النظام الديمقراطي في فرنسا.

الرئيس الفرنسي مشغول بفقدان الاقتصاد الفرنسي للحيوية والديناميكية التي ميزته في الماضي.

للرئيس الفرنسي خلفية مالية قوية اكتسبها من عمله الطويل في المصارف، هذه الخلفية تؤهله لرؤية اتجاهات تطور الاقتصاد العالمي، ولتقدير مخاطر تراجع تنافسية فرنسا، بسبب التشريعات المقيدة لحرية الاستثمار والعمل، وهو البرنامج الذي تم على أساسه انتخابه في العام الماضي.

شرع الرئيس ماكرون في تطبيق برنامجه للإصلاح، لكن سياساته أضرت بمصالح قطاعات من الفرنسيين، وتعارضت بشكل خاص مع تشريعات اشتراكية الطابع باتت جزءاً لا يتجزأ من تقاليد دولة الرعاية الفرنسية.

قوبلت سياسات الرئيس ماكرون بالرفض من جانب بعض الفرنسيين، فخرجوا إلى الشارع في احتجاجات عنيفة. الاحتجاجات، والعنف الشديد الذي اتسمت به، حولت فرنسا من بلد تحكمه السياسات المؤسسية إلى بلد تحكمه سياسات الشارع.

الديمقراطية هي نظام تتولى فيه مؤسسات محددة دستورياً بدقة ممارسة السلطة، بعد الحصول على تفويض شعبي في انتخابات نزيهة، وتحت مراقبة مؤسسات أخرى يخولها الدستور مناقشة الأفكار والسياسات ومراقبة الحكومة.

الديمقراطية هي نظام يسمح باستشارة المواطنين، في الوقت نفسه الذي تتيح فيه إبعادهم عن السلطة، بما يتيح لنخبة الحكمة الفرصة للتعامل مع تعقيدات السياسة والمجتمع والاقتصاد متحررة من ضجيج وعصبية وإلحاح الجماهير الغفيرة.

احتجاجات الشارع فيها مصادرة على حق الأغلبية التي انتخبت، وفيها تقويض للانتخابات باعتبارها الآلية الأهم المميزة للديمقراطية. عندما يطالب أصحاب الأصوات العالية في الشارع برحيل الرئيس المنتخب فإن مئات الآلاف المتجمهرين يلغون حق ملايين الناخبين في تقرير مصير أنفسهم ويمارسون الوصاية عليهم. سياسات الشارع تتيح للأقلية المنظمة الفرصة لاحتلال مقدمة المسرح وفرض إرادتها. إنها دكتاتورية الأقلية وقد تخفت في صوت الشعب بعد أن تم تزييفه.

ليس لدى الحكومات عصا سحرية تحل المشكلات، فقضايا الاقتصاد والمجتمع والثقافة المعقدة لا يمكن حلها بكبسة زر.

تأمين حل مستدام للمشكلات يحتاج إلى وقت، ولهذا يجري تنظيم الانتخابات كل سنوات عدة، يتاح خلالها للحكومة المنتخبة الفرصة لتنفيذ سياساتها، كما يتاح للناخبين اختبار ما إذا كانت هذه السياسات في الاتجاه الصحيح أم لا.

لو بدل المريض طبيبه في كل مرة شعر فيها بالألم ما استمر طبيب في مهنته، ولو بدلت الشعوب حكوماتها بمجرد أن يضيق الحال ما أمكن تطبيق أي إصلاح عميق طويل الأمد.

التمحيص والتدبر هو إحدى أهم الوظائف التي تؤديها المؤسسات.

مناقشات البرلمان يجب ألا تكون استعراضاً فارغاً لمهارات الخطابة، ولا تصفية لحسابات سياسية، بل نقاش جاد حول البدائل المختلفة وجدواها، يقلب القضايا على وجوهها المتعددة، ويتعرف على ما هو سليم في الحجج المختلفة، ويختار البديل الأكثر فائدة.

لا يوجد تمحيص وتدبر في سياسات الشارع، فقط يوجد غضب وكراهية ونزعات عنف وتدمير.

أعداد المتظاهرين، وضجيجيهم، وغضبهم، وحماسهم الزائد ليس دليلاً على سلامة الشعارات ونجاعة المطالب. صحيح أنّ مئات الآلاف من الفرنسيين قد شاركوا في الاحتجاجات، لكن الصحيح أيضاً أن قسماً كبيراً من هؤلاء جاء من أقصى اليسار والفوضوية، بينما جاء قسم كبير آخر من أقصى اليمين القومي والفاشية.

لا شيء يجمع النقيضين المتطرفين سوى الانتهازية السياسية، التي تجعل كل فريق منهما مستعداً للركوب على ظهر الفريق الآخر، من أجل إسقاط رئيس انتخبه أغلب الفرنسيين القابعين في الوسط.

مشكلة السياسة الفرنسية هي أنها فقدت منذ زمن جانباً كبيراً من طابعها المؤسسي، وباتت نهباً لضغوط شعبوية متزايدة من اليسار واليمين، وفي هذا لا تختلف فرنسا كثيراً عما يجري في أغلب الديمقراطيات الغربية.

لقد فقدت المؤسسات الفرنسية طابعها الرصين، وتحولت إلى امتداد لسياسات الشارع وتحريض التيارات الشعبوبة. لم يعد البرلمان مؤسسة للتمحيص والتدبر بعدما أصبح منبراً للتراشق الأيديولوجي والرطانة الخطابية.

فقدت النخب الفرنسية مكانتها وسمعتها في أعين الناخبين، بعد أن استبدلت المظهرية وتصفية الحسابات بالبحث عن السياسات الأكثر فعالية لخدمة الناس.

ليس مصادفة أن آخر رئيسين فرنسيين، نيكولاي ساركوزي وفرانسوا أولاند، فشلا في الفوز بفترة رئاسة ثانية.

وصل إيمانويل ماكرون لقصر الإليزيه الرئاسي محمولاً على موجة عالية من معاداة المؤسسية ورفض الطبقة السياسية، وها هي الموجة نفسها تهدد مستقبله، وتهدد معها مستقبل الديمقراطية والاستقرار في فرنسا.

Email