المعرفة ورأس المال البشري

ت + ت - الحجم الطبيعي

عن الإدراك والوعي والقدرة على فهم الحقائق في سياقها وتفنيدها وتفسيرها تدور المعرفة. وحول توافر ما سبق تدور عجلة الحياة في المجتمعات المصنفة «متقدمة». وعن شحها، أو تواجدها مجتزأة، تجتر المجتمعات الأخرى أحزان افتقاد التحضر وافتقار التقدم.

والتقدم الذي يصبو إليه العديد من المجتمعات العربية يختفي أحياناً ويلوح في الأفق حيناً. إطلاق مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة في عام 2007 بمبادرة شخصية من صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم لم يكن مجرد تدشين لمؤسسة أو تأسيس لهيئة بقدر ما كان تدشيناً لاعتراف بقيمة المعرفة، وتأسيساً لنهج يؤدي إلى اعتناق المعرفة.

عقيدة المعرفة -التي ينطلق منها الدين عبر وجوب إدراك الحقائق بالمعرفة- تعاني الأمرين في المنطقة العربية. فمن اعتقاد خاطئ بأن التعليم يغني عن المعرفة، لخلط واضح بين وجوب المعرفة وإلزامية التعليم، لطمس لقيمة المعرفة، دخلت المنطقة في خانة الخطر.

خطورة تآكل مكانة المعرفة عربياً تبدو ملامحها وأماراتها واضحة وضوح الشمس. فمن استمرار سطوة الدجل والشعوذة هنا، لتجاهل أهمية التعليم وتنمية المهارات هناك، لتعليق عدم المعرفة على شماعة هياكل تعليمية مهترئة أو تفسيرات دينية مجتزأة، مرت عقود وربما قرون والعرب في غفلة من المعرفة.

لكن لحسن الحظ أن بوادر إنهاء الغفلة دقت أبواب العالم العربي عبر جهود شتى. ومنها على سبيل المثال ما تبذله مصر من جهد من أجل إصلاح هيكل التعليم ليكون قائماً على المعرفة لا التلقين، ومحاولات لتصويب الخطاب الديني وتنقيته مما علق به من جمود والإبقاء عليه متحجراً عصياً على التطوير. وفي الإمارات، وتحديداً دبي، حيث اختتمت فعاليات «قمة المعرفة 2018» في نسختها الخامسة، وذلك تحت رعاية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم.

وبعيداً عن الجلسات ومحتوى الكلمات النقاشات من موضوعات بالغة الأهمية حول المعرفة وقيمتها والتعامل مع اقتصاداتها ومؤشراتها والجاهزية لتطوراتها واستشراف مستقبلها والتحول من استهلاك المعرفة إلى استهلاكها والتعامل مع رأس المال المعرفي باعتباره ثروة مستدامة ودور الشباب المحوري في القلب من هذه المنظومة، فإن معنى استمرار انعقاد قمة عربية عن المعرفة للعام الخامس على التوالي يعني أن المسألة ليست «قمة وخلاص»، بل هي قمة الخلاص.

الخلاص مما وقعت فيه المنطقة العربية من جمود في الفكر يؤدي إلى تحجر الابتكار وتصلب الإبداع لن يتحقق إلا من خلال النظر إلى العلم والتعليم من بوابة المعرفة. امتحاناتنا ما زالت تقيس كمية المعلومات التي تمكن عقل الطالب من حفظها، لا نوعية المعرفة التي تراكمت لدى الطالب عبر تعرضه لهذه المعلومات وإلمامه بها.

مصادر المعلومات التي تشكل نقطة انطلاق رئيسية لاكتساب المعرفة لم تعد كتباً ثابتة أو مراجع راسخة. فكلما كانت قابلة للتطوير ومتقبلة للتغيير لتواكب العصر، وربما تسبقه، كلما ضمنت لنفسها الاستمرارية.

استمرارية اللغة العربية على مدار قرون عدة تعني أنها لغة قابلة للتجديد ومتوائمة مع التغيير، وإلا لاندثرت منذ زمن. عميد الأدب العربي الراحل العظيم الدكتور طه حسين حين قال إن «لغتنا العربية يسر لا عسر ونحن نملكها كما كان القدماء يملكونها ولنا أن نضيف إليها ما نحتاج إليه في العصر الحديث»، لم يقصر كلماته على زمن بعينه أو سنوات دون غيرها. وأغلب الظن إنه لو كان حياً بيننا هذه الأيام، لطالب بحتمية الخروج من الجمود المعرفي في التعليم الذي شبهه يوماً بالماء والهواء اللذين لا غنى عنهما أبداً.

فإذا كان الماء مسمماً والهواء ملبداً، فإن النتيجة تكون أدمغة غير قادرة على اكتساب المعرفة مهما حمل أصحابها من شهادات عليا ودرجات علمية كبرى. هذه الأدمغة هي رأس المال البشري، عماد الأمم وعتادها. الشباب من عماد الأمة العربية وعتادها قابعون في القلب من المعرفة في القرن الـ21. منظومة الاقتصاد في طريقها إلى التغيير ليكون اقتصاد المعرفة وقود الثورة الصناعية الرابعة. واستهلاك المعرفة دون إنتاج أي منها أمر غير قابل للاستمرار.

استمرار التعامل مع المعرفة باعتبارها رفاهية أو أمراً مقتصراً على الأغنياء أو شأناً حكومياً لا علاقة للشعوب به لن يؤدي إلا إلى إغراق في الجهالة. والخروج من نفق ازدراء المعرفة المظلم يحتاج إلى تضافر جهود الدول مع الشعوب مع المجتمع المدني. والسير على نهج من سبقونا في اعتناق المعرفة يعني إننا بدأنا في الاستثمار الفعلي في رأس المال البشري. فتحية خالصة إلى قمة المعرفة وما تطرحه من آمال للخلاص من الجهالة حتى وإن كانت تحمل درجة الدكتوراه.

 

 

Email