تجربة اتحاد الإمارات نموذج مطلوب عربياً

ت + ت - الحجم الطبيعي

لقد قامت أشكال مختلفة من مجالس التعاون الإقليمي في المنطقة العربية خلال العقود الأربعة الماضية، لكنّها انتهت إلى الفشل، كما حصل في تجربتيْ مجلس التعاون العربي (العراق، مصر، اليمن والأردن) واتحاد المغرب العربي (المغرب، الجزائر، تونس وليبيا)، ولا شكّ أنّ الدول الأعضاء في «مجلس التعاون الخليجي» هي محط أنظار قوى إقليمية ودولية عدة. فهذه الدول تملك حوالي 40% من نفط العالم. وهذا يجعل بلدان الخليج العربي هدفاً للطامعين في مصادر الطاقة المهمّة للعالم كلّه.

لكن قبل هذه التجارب الاتحادية العربية، جرى في مطلع حقبة السبعينات بناء تجربة اتحادية في منطقة الخليج العربي، قادها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، الذي كان حاكماً لإمارة أبوظبي آنذاك، وأدّت إلى قيام «دولة الإمارات العربية المتحدة» التي أصبحت بمثابة نموذج لما هو منشود على المستوى العربي الشامل. فهذه الدولة الفتيَّة قامت على جملةٍ من الأسس من المهم التوقف عندها واستخلاص معانيها ودروسها المفيدة للمستقبل العربي ككلّ.

المنطقة العربية تحتاج الآن إلى مجموعة الخطوات التي تضمنتها مسيرة تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة. فرغم عناصر التوحّد العديدة التي كانت تجمع بين إمارات الخليج، فإنَّ التفاعل الجاد بين حكَّامها، بقيادة الشيخ زايد، أدَّى إلى الاتفاق على صيغةٍ تكاملية تحفظ الخصوصيات، وليس صيغة اندماجية تفرض هيمنة الإمارة الكبيرة على الإمارة الصغيرة.

ولا شكَّ أنَّ حكمة الشيخ زايد، وسعة إدراكه لأهميَّة تحقيق الهدف الكبير، ومرونة تفكيره وأسلوبه، كلّها عناصر ساهمت في استيعاب الاختلافات بين الإمارات، وفي الوصول إلى صيغةٍ اتحادية تكاملية تعتمد الشورى بين حكامها وتحقق التفاعل الإيجابي بين مواطني الإمارات كلّها.

وكان واضحاً منذ بدء مسيرة تأسيس دولة الإمارات، الحرص الكامل على الهوية العربية لهذه الدولة الجديدة، فلم تولَد دولة الإمارات باسم (اتحاد الإمارات الخليجية) بل كانت التسمية تعبيراً عن الالتزام بهويَّةٍ عربية تحوَّلت فيما بعد إلى ممارسةٍ عملية تخدم القضايا العربية في المجالات كلّها.. فكان لدولة الإمارات العربية الأثر الكبير في تنمية اقتصاد دول عربية أخرى عدَّة، وفي الدعم الكبير للقضية الفلسطينية، وفي السعي لتحقيق التكامل بين دول المنطقة العربية.

تجربة دولة الإمارات العربية تستحق أكثر من تهنئةٍ بمناسبة مرور 47 عاماً على تأسيسها، فهي تجربة نموذجية نجحت في الاختبار على مدار أربعة عقود لكي تكون حالة قابلة للتكرار بين عموم الدول العربية. فما الذي يمنع أن تتكامل المنطقة العربية كلّها في صيغةٍ اتحادية تحفظ حقوق كلّ الأوطان، كبيرها وصغيرها، وتتيح لكلّ وطن إطلاق ما عنده من إبداعات وكفاءات تستفيد منها الأمَّة ككل كما يستفيد منها الوطن نفسه، فها هي دبي، بفضل رؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، تمكنت من تحقيق إنجازاتٍ اقتصاديةٍ وتجاريةٍ وعلمية وإعلامية، جعلتها مقصداً لمعظم العالم، فاستفادت منها الإمارة نفسها، كما كانت مصدر خيرٍ ونجاح لكلّ دولة الإمارات بل للعرب جميعاً.

فلم تأخذ تجربة دولة الإمارات من خصوصية أيَّة إمارة، بل أضافت هذه التجربة وأعطت للإمارات كلّها الخير والوضع الأفضل لبناء مستقبلٍ أفضل. وأمام العرب اليوم نماذج كبرى في العالم تؤكّد أهميَّة التكامل القائم على مزيجٍ من الاتحاد والحرص على الخصوصيات من جهة، وعلى الهوية المشتركة والمصالح المشتركة، من جهة أخرى. فمن النموذج الأميركي الفيدرالي إلى النموذج الأوروبي الكونفيدرالي، يستطيع العرب استخلاص ما هو مناسب لظروفهم الخاصة، تماماً كما فعل حكام الإمارات عام 1971 بقيادة الشيخ الحكيم زايد بن سلطان.

واقع الحال العربي الراهن يستدعي وقفة عربية شاملة مع الذات، ومراجعة عميقة لكل المرحلة الماضية، وإدراكاً واعياً بأنّ الكل في هذه المنطقة على سفينة واحدة، وبأنّ التجارب الاتحادية العربية الفاشلة في الماضي لا يجب أن تعني تخلّياً عن مطلب التكامل العربي الشامل. فبديل ذلك هو التمزّق والانشطار الداخلي.

وكم هي مصادفة محزنة أن تكون بداية التجربة الاتحادية الأوروبية قد تزامنت مع فترة تأسيس الجامعة العربية في منتصف الأربعينات من القرن الماضي، فإذا بدولٍ لا تجمعها ثقافة واحدة ولا لغة واحدة، دول شهدت فيما بينها في قرونٍ مختلفة حروباً دموية طاحنة آخرها الحرب العالمية الثانية، تتّجه إلى أعلى مستويات الاتحاد والتعاون، بينما بدا التعاون بين الدول العربية أشبه بمؤشّرات سوق العملة، يرتفع أحياناً ليصل إلى درجة الوحدة الاندماجية بين بعض الأقطار، ثمّ يهبط معظم الأحيان ليصل إلى حدّ الانقسام بين الشعوب والصراعات المسلّحة على الحدود، وإلى الطلاق الشامل بين من جمعتهم في مرحلة ماضية صيغٌ وحدوية..

تجارب اتحادية إقليمية عربية أخرى، كانت تسير بحالٍ معاكس تماماً، فهذه التجارب العربية لم تعتمد في مسيرتها سوى على توافق المواقف السياسية الآنية، أو على تحدّيات طارئة على هذا البلد أو ذاك، سرعان ما تعود العلاقات السلبية بعدها إلى سابق عهدها.

تستحق تجربة «دولة الإمارات العربية» هذا الفخر والاعتزاز الكبير الذي يُعبّر عنه الآن «المواطنون الإماراتيون» بمناسبة عيدهم الوطني الـ47، فهي تجربة ناجحة وصامدة ومتطورة رغم كل ما أحاط المنطقة من أزمات عصفت بها لكنها لم تُضعف هذا البناء الصلب الذي بناه الشيخ زايد وجرى الحفاظ عليه بعد رحيله.

* مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن

Email