لا تَحدُث إلا للزعماء المُلهَمين

ت + ت - الحجم الطبيعي

لله درك من قائد عظيم. كان الناس ينامون ليلهم يحلمون بتوفير لقمة عيش يومهم التالي، وكنت تسهر الليالي، تحلم لهم بأيام أفضل، وتفكر كيف تحقق هذه الأحلام، وتحولها إلى منجزات وحقائق.

كان الزمان أواخر الستينيات من القرن العشرين، وكان الشيخ زايد، عليه رحمة الله، قد تولى مقاليد الحكم في إمارة أبوظبي قبل سنوات قليلة.

وقتها زار هذه البقعة، التي كانت مجهولة، الصحافي الهندي الشهير كرانجيا، مالك ومؤسس مجلة «بليتز» الهندية، وكان وقتها يجوب منطقة الشرق الأوسط، يجري حوارات في دولها مع الشخصيات الأبرز فيها، يستشرف من خلالها المستقبل. وكان من بين الشخصيات التي أجرى حواراً معها الزعيم المصري الراحل جمال عبدالناصر، نجم تلك المرحلة وأبرز وجوهها.

كانت المنطقة وقتها تمور بأحداث جسام، وكانت الإمارات وقتها محميات بريطانية صغيرة متناثرة على شاطيء خليج لم تبرز أهميته بعد، تتفاعل مع تلك الأحداث دون أن تؤثر فيها، إذ لم تكن قد عرفت طريقها إلى الاستقلال بعد. لذلك لم يكن الصحافيون يشدون الرحال إليها لمقابلة أحد من حكامها.

لكن زايد، عليه رحمة الله، لم يكن حاكماً عادياً يمكن أن تخطئه البصيرة، لذلك شد كثير من الصحافيين الرحال إلى أبوظبي. وكان منهم كرانجيا، الذي زار أبوظبي ذات يوم قائظ من أيام الصيف، ليقابل هذا الحاكم الذي كان ظهوره يبشر بولادة قائد وزعيم سيكون له شأن في تاريخ هذه الأرض والمنطقة والعالم أجمع.

جاء كرانجيا إلى أبوظبي ليقابل زايد، وسهر معه في بيته حتى ساعات الفجر الأولى، وخرج من عنده بحوار تصدّرته شهادة من صحافي حاور زعماء وشخصيات كثيرة ذات وزن وثقل، قال كلمة حق سوف تبقى خالدة في سجل الشهادات التي قيلت في زايد، عليه رحمة الله، قبل أن يصنع هذا الاتحاد العظيم وبعد أن صنعه، ما كان منها في حياته وما كان بعد رحيله.

قال كرانجيا: «ليس هناك من بين كل الشخصيات الباهرة، التي ظهرت في عهد النهضة العظيم الذي تشهده جميع دول الخليج بعد اكتشاف البترول، ليس هناك من شخصية تقارن بشخصية الشيخ زايد بن سلطان، حاكم أبوظبي، من حيث توافر عناصر القيادة الملهمة في روحه، ومن حيث نظرياته السياسية والاقتصادية التي يريد أن يطبقها في المنطقة، ومن حيث إنجازاته الكثيرة التي تمت في وقت قصير جداً.

إن حاكم أبوظبي يمثل نهضة هذه المنطقة بشكل أخاذ، لدرجة أنني لم أستطع مقاومة الكلام معه طوال ليلة بأكملها حتى ساعات الفجر. وكان ذلك بعد مأدبة العشاء التي أقامها في بيته المتواضع بمناسبة زيارتي للإمارة».

لله درك يا زايد، كيف استطعت أن تبهر العالم بشخصيتك وأنت لم تحقق أحلامك بعد؟ وكيف جمعت قلوب الناس حولك، ووحدت آراءهم فيك، وهم لم يروا بعد سوى النزر اليسير مما كنت تحلم به لبلدك وشعبك وأمتك؟ كنت تسهر والناس نيام، وكنت تحلم بغدٍ أفضل لهم، وهم مستسلمون لواقعهم، وكنت تخطط لأعمال عظيمة سوف يتحدث عنها التاريخ، وتحفظها الأجيال جيلاً بعد جيل.

لقد سجل هذا الحلم الصحافي الهندي كرانجيا، في المقابلة التي نشرها في مجلته بتاريخ 4 يونيو 1970عندما نقل عنك هذه الحكاية المؤثرة:

«في أحد الأيام، عندما كنت حاكماً للعين في المنطقة الشرقية، كنت أتمشى في طرقات العين، وكان معي في هذه الجولة أحد الأصدقاء، وهو ضابط إنجليزي كبير. وأحسست وأنا أرى الناس والبيوت والجبال والوديان أن حضارة هذا البلد تكاد تصرخ فيّ وتدفعني دفعاً إلى بناء دولة عصرية حديثة.

هنا أخذت أشير وكأنني في حلم روحي عذب؛ هنا سيقوم مركز زراعي ضخم، وهنا منطقة صناعية، وهنا محطة كبيرة لتوليد الكهرباء.

وهناك في أبوظبي سننشىء ميناء في هذه المنطقة بالتحديد، أما المطار فسيكون في تلك المنطقة، وهنا جامعة، وهنا المستشفى، وهنا قوة الدفاع، وهكذا.. وهكذا. وضحك صاحبي وقال لي: دعك من أحلام اليقظة.

ومرت الأيام، ونسيت الحديث كله، حتى جاء في يوم الصديق نفسه بعد أكثر من عشرين عاماً ليزورني بعد أن اعتزل الخدمة في بلاده، وكان مندهشاً للقريتين اللتين رآهما في ذلك الوقت كيف أصبحتا الآن، وقال لي: هل تذكر ذلك الحديث الغريب؟ إن كل شيء عينته بُني في المكان ذاته الذي حددته؛ المصانع والكهرباء والمستشفى، حتى الدفاع. كل هذا تحقق ولم تكن أحلام يقظة»!

هذا هو حلم زايد، عليه رحمة الله، الذي رواه لذلك الصحافي قبل نصف قرن تقريباً، وعلق عليه كرانجيا قائلاً: «هذه القصة حدثت قبل أن يحلم أحد أن هناك بترولاً سيتدفق في هذه المنطقة، أو أن الشيخ زايد سيكون حاكماً لتلك البلاد. إن مثل هذه الحالات لا تَحدُث إلا للزعماء الملهمين، وزايد فيه الكثير من صفات الزعيم الملهم».

نستذكر هذه الشهادة، وهي واحدة من شهادات كثيرة لا تُعدّ ولا تحصى، ونحن نعيش هذه الأيام أفراح الوطن، حيث تجاوز حلم زايد، عليه رحمة الله، الأرض وانطلق إلى الفضاء، وأصبحت دولة الإمارات العربية المتحدة واحدة من الدول المؤثرة، ليس في المنطقة فقط، وإنما في العالم أجمع، وأصبحت مدنها، التي وصفها ذلك الضابط الإنجليزي بالقرى، أكثر مدن العالم تطوراً وحداثة ورفاهية.

نستذكر هذا كله لنقول: رحم الله زايد، الذي لا تغيب صورته أبداً، فلولاه ما تحقق شيء من هذا.

 

 

Email