الانتماء لمن لا انتماء له

ت + ت - الحجم الطبيعي

في اليوم الوطني الـ47 لدولة الإمارات، وليس من قبيل المجاملة أو من باب الحسد أن نجد الأضواء مسلطة على هذه الدولة التي نجحت في تحقيق الصعب. وفي هذه الأيام وفي ظل تلك الظروف، ليس هناك أصعب من أن تجد أجيالاً شابة تشعر بالانتماء قلبًا وقالبًا للوطن.

والوطن الذي يجعل من عيده مناسبة يحييها شبابه وشاباته بالبهجة ذاتها التي يحيون بها أعياد ميلادهم ومناسبات حلوة في حياتهم هو وطن استثمر في مستقبله.

عبر تربية وتنشئة وتعليم وتواصل بين الأجيال ومواكبة لروح العصر ومتطلباته، مستقبل الأوطان يمر عبر قاعات الدرس.

في دولة أخرى، في إحدى القاعات، سادت همهمة خافتة وابتسامات باهتة بين الطلاب والطالبات. وكان المعلم قد ذكر لتوه أن الأعياد الوطنية مناسبات مهمة لتنشيط مشاعر الانتماء والتذكير بقيمة الأوطان.

ولأن الفارق العمري بين المعلم والطلبة كبير، فقد سأل المعلم عن سر الهمهمة وبهتان الابتسامة. وتواترت عليه الإجابات متراوحة بين التقليل من شأن المناسبات الوطنية، والتشكيك في قيمة الانتماء، والتلسين حول سبل الاحتفالات.

ولأن الاحتفال بالوطن لا يختلف كثيرًا عن الاحتفال بذكرى وصول البشر إلى الدنيا، أو توثيق رباط محبة بزواج، أو ترقية من منصب إلى منصب، فقد تبحر المعلم مع الطلبة سائلاً ومناقشًا في محاولة لمعرفة أسباب استثناء الوطن من أحقية الاحتفاء.

المؤكد أن معنى الانتماء ومعاييره والعوامل التي تؤدي إلى افتقاد الشعور به أو عدم تقدير قيمته أمور تستحق البحث والتقصي. آلاف الكتب والأبحاث والمقالات تتطرق إلى معنى الشعور بالإنتماء.

فهل هو انتساب لمكان جغرافي تصادف أن ولد فيه الشخص؟ أم هو انتماء للأسرة أينما وجدت؟ أم يتعلق بالدين الذي ولد الشخص ليجد نفسه معتنقًا به؟ أم هو تعلق بالعادات والتقاليد والذكريات والقيم التي تربى ونشأ عليها الفرد فأصبحت ما يشبه بالتحصيل الحاصل؟

الحاصل في الكثير من دول الغرب هو إعادة التنقيب عن المقصود بالانتماء للوطن. ربما يعود ذلك إلى التغيرات التي طرأت على التقسيمة الديموغرافية وتركيبة الانتماءات الدينية والناشئتين عن تزايد وتواتر موجات الهجرة إلى الغرب.

ويتفجر الجدل وتتحرك أوساط النقاش حول إذا ما كانت قائمة الانتماء لدى المسلمين المهاجرين وأبنائهم وأحفادهم تبدي الوطن قبل الدين أم العكس أم تضعهما في المكانة نفسها.

الجدل نفسه يثور ويتفجر عربيًا، ولكن مع اختلاف المحتوى قليلاً. فمشاعر الانتماء للأوطان باتت على المحك في البعض من الدول العربية، لا سيما بين الشباب. وفي بدايات تفجر ما يسمى بـ«الربيع العربي»، ساد إيمان عميق بأن الأسباب الرئيسية سياسية واجتماعية واقتصادية.

إلا أن تواتر الأحداث وتحول التوجهات وركوب الأمواج الثورية واقتناص الفرص الشعبية فتح الباب أمام تجلي مشكلة خطيرة ألا وهي ما أصاب قطاعات من الشباب العربي من شعور بعدم الانتماء.

الشعور بعدم الانتماء ليس جريمة، بل نتيجة. وصاحبه ضحية إما لعوار في التنشئة، أو تقصير في التربية، أو إهمال في التعليم، أو إغفال للحقوق، أو إفراط في الفساد، أو تراخ في مد جسور التواصل بين الأجيال، أو تغاض عن التغير المستمر في احتياجات ومطالب الصغار، أو تهاون في دفع عجلة الاقتصاد، أو تثاقل في مواكبة العصر ومتطلباته ومن ثم تأهيل الصغار لما هو آت أو بعض أو كل ما سبق.

وقد سبق وبحث الأولون في عناوين رنانة مثل «الشباب العربي ومشكلات الانتماء» «ومعضلة العروبة» «وإشكالية الدين والتدين» «وأزمة البحث عن هوية» «والتغريب» «والعنف بديلاً للانتماء» «والغرق في العولمة» «والبحث عن الذات» والقائمة لا تنتهي. وهذا طبيعي لأن مشكلة الانتماء متعددة الأبعاد.

البعد الديني، لا سيما في زمن الجماعات المتأسلمة، بات من عوامل تنامي الشعور بعدم الانتماء. فإذا كان الشباب المسلم يتعرض للتصنيف بناء على مدى انتمائه لأيديولوجيات متطرفة وإلا أصبح مسلمًا ناقصًا، فما بالك بالشباب غير المسلم من الأصل؟

والأصل في الانتماء هو الإيجابية والاحتياج والاطمئنان والفخر. عالم النفس الأمريكي ديفيد ماكليلاند (1917 - 1998) أمضى عقودًا طويلة في البحث عن مكامن التحفيز للإنسان. وتوصل إلى أربعة احتياجات نفسية رئيسية تحفز البشر وهي الحاجة إلى: القوة، والإنجاز، والاستقلال، والانتماء.

الجميع إذن يشعر بالاحتياج إلى الانضمام لمجموعة ما، وهذا الانضمام يمده بالشعور بالقوة والقدرة على الإنجاز وإمكانية أن يكون مستقلاً عن المجموعات الأخرى.

مجموعات عديدة من الشباب العربي هذه الآونة تفتقد هذه المشاعر. فهم لا يشعرون بالقوة ربما لأسباب سياسية وأمنية جعلت من المنطقة قابعة على صفيح ساخن.

كما لا يؤمنون بقدرتهم أو من حولهم على الإنجاز، ويبدو هذا جليًا في ترهّل الكثير من الأنظمة التعليمية، ومن ثم تفاقم نسب البطالة وتفجر قطاعات الأعمال الهامشية، ويتملكهم إحساس بأن مجتمعاتهم غير قادرة على الاستقلال بمواقفها أو توجهاتها أو تحديد أولوياتها.

الأولويات العربية الآنية ينبغي أن تدرج «قنبلة» افتقاد الانتماء الكامنة في الكثير من البيوت العربية.

 

 

Email