«مئوية الحرب».. احتفال بتوجهات استراتيجية

ت + ت - الحجم الطبيعي

اختلف الاحتفال بمئوية الحرب العالمية الأولى هذه المرة في باريس، عن الاحتفال بهذه الذكرى في الأعوام السابقة، حيث سيطرت الهموم الأوروبية التي تتعلق بالسلام والأمن الجماعي، والمستقبل والتعددية في إدارة العلاقات الدولية، والفجوة التي تزداد اتساعاً مع الإدارة الأميركية الجديدة، حول العديد من القضايا الدولية، ربما لعب تطور شكل الاحتفال بهذه المناسبة، دوراً في تصدر هذه الملفات هذه المناسبة المئوية، حيث لم يعد الاحتفال بالسلاح والمقاتلين الذين ضحوا بحياتهم في هذه الحرب، هو العنصر الغالب، ومع ذلك، فإن تاريخ هذه المناسبة، استدعى حضوراً قوياً لواقع العلاقات والقضايا الدولية المختلف عليها بين أعضاء التحالف الغربي السياسي والعسكري، متمثلاً في حلف الناتو.

خلا الاحتفال من تمجيد التحالف الأوروبي الأطلسي، أو الأوروبي الأميركي، وتمجيد «زعيمة العالم الحر»، وهو اللقب التقليدي الذي حملته الولايات المتحدة الأميركية، منذ أن شاركت في الحرب العالمية الأولى، واختلطت دماء الأميركيين بدماء الأوروبيين، وغيرهم من الدول التي شاركت في هذه الحرب، على أرض القارة العجوز.

الرسائل التي حملها هذا الاحتفال كثيرة، بعضها يتضمن توجهاً استراتيجياً، وبعضها الآخر عبّر في اللا وعي عن بعض الأحلام التي تراود الدول الكبرى في الاتحاد الأوروبي، فمن ناحية، كان هذا الاحتفال الذي حضره ما يفوق السبعين دولة، والعديد من المنظمات الدولية في باريس، رسالة، فحواها قدرة فرنسا على قيادة الاتحاد الأوروبي، بعد رحيل أنغيلا ميركل مستشار ألمانيا، وتأهلها لهذا المكان، ومن ناحية أخرى، فإن حديث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون «عن جيش أوروبي موحد»، وإن كان قد تراجع عن ذلك، في لقائه بترامب، بل وأكد ضرورة زيادة نسبة المشاركة الأوروبية في النفقات الدفاعية لحلف الأطلنطي، إلا أنه يعكس تآكل الثقة في الحليف الأميركي الجديد، ورغبة أوروبا في ملء الفراغ الأمني.

توالت إشارات متواترة في خطاب ماكرون وأنغيلا ميركل، تحذر من صعود التيارات القومية، والاتجاه نحو الأحادية في معالجة العديد من القضايا الدولية، وسهولة تدمير المؤسسات الدولية، مقابل صعوبة إعادة بنائها، وذلك في حضور الرئيس الأميركي في الصفوف الأولى، الذي صعد إلى سدة الحكم بشعار «أميركا أولاً».

توافق الرسائل والإشارات التي حملتها كلمات ميركل وماكرون، يقف وراءها تاريخ طويل من التعاون الألماني الفرنسي، والمبادرات الفرنسية الألمانية التي كانت وراء إنشاء الاتحاد الأوروبي، ودفعه قدماً إلى الأمام، وهو الاتحاد الذي كفل للدول الأوروبية سلاماً واستقراراً دام ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن، ولكنه يضم الآن العديد من الدول التي لا تهدف إلا إلى الحصول على الحماية وضمان الأمن من قبل حلف الناتو، والمساعدات المالية والاقتصادية من الاتحاد الأوروبي، دون احترام المبادئ والقيم التي تأسس عليها الاتحاد، بدعوى حماية السيادة الوطنية.

توافق محتوى الرسائل والإشارات بين ألمانيا وفرنسا في مواجهة الرئيس الأميركي، لا يخفي اختلاف النظر لطبيعة هذه الذكرى بين الدولتين، أي ذكرى 11 نوفمبر 1918، فكل من فرنسا وألمانيا يمتلك نظرة خاصة لهذه المناسبة، إلا أن المبادرة والتعاون من أجل البناء الأوروبي، الذي انخرط فيه التعاون الألماني الفرنسي، وكذلك التباعد والجفاء في العلاقات الأميركية الأوروبية، قد ساهم في توحيد الرسائل الموجهة إلى الإدارة الأميركية.

ورغم الاحتفاء بهذه المناسبة على هذا النحو، إلا أن دروسها لم تستوعب على نحو بناء وخلاق، يحول دون تكرارها، حيث إن 11 نوفمبر 1918 لم يضع نهاية للحروب والصراعات المسلحة، ولم يحُل دون وقوع الحرب العالمية الثانية، ولا يزال العالم محكوماً بقانون علاقات القوة والسيطرة والهيمنة، رغم وجود مؤسسات دولية وهيئات أممية، كالأمم المتحدة وغيرها من المنظمات، التي تشتمل مواثيقها على مبادئ وقواعد سياسية وإنسانية، ولكنها تحظى بالقابلية للانتهاك والاختراق من قبل من يملكون القوة والنفوذ، ويمتلكون القدرة على وضع هذه المبادئ موضع التطبيق، عندما يتعلق الأمر بمصالحهم، كما يمتلكون القدرة ذاتها على تعطيل هذا المسار، عندما يتعلق الأمر بمصالح حلفائهم أو مصالح الدول والشعوب التي تتعرض لظلم تاريخي مستدام.

وقعت الهدنة في 11 نوفمبر عام 1918، ومعاهدة فرساي في عام 1919، وانتهت الحرب العالمية الأولى بهزيمة ألمانيا، ومع ذلك، ورغم العدد الضخم من ضحايا ومصابي هذه الحرب ومآسيها، إلا أن ذلك في ما يبدو كان تقريباً، تمهيداً للحرب العالمية الثانية، وكأن الحكومات والدول لم تتعلم شيئاً من دروس المأساة.

* كاتب مصري

Email