في الذكرى المائة لانتهاء الحرب الكونية

ت + ت - الحجم الطبيعي

احتفل العالم قبل أيام قليلة بالذكرى السنوية المائة لانتهاء الحرب العالمية الأولى (1918-2018)، تلك الحرب الكونية، التي حصدت أرواح الملايين من البشر وراح ضحيتها اقتصادات كثيرة من البلدان، التي شاركت في الحرب وأيضاً تلك التي لم تشارك.

انقسم العالم في تلك الحرب الكبرى إلى محورين متنافسين، وانضمت عدد من دول العالم إلى كلا المعسكرين، محور يضم بريطانيا وفرنسا وحلفاءهما، والآخر يضم النمسا وألمانيا والدولة العثمانية وحلفاءهم، أما دول الخليج فسياسياً كانت مجبرة على الوقوف إلى جانب بريطانيا العظمى بوصفها الدولة المسيطرة على منطقة الخليج، والتي تربطها بجميع دولها اتفاقيات ومعاهدات.

الوثائق تكشف أن الشعور الوطني والقومي في دول الخليج كان مضاعفاً، فبحكم كونه جزءاً من جزيرة العرب، تلك الجزيرة التي كانت موطناً للحضارة العربية الإسلامية وبلاد الحرمين، وبحكم كونه يتوسط البلاد العربية ويربط بين كل من بلاد العراق والشام ومصر، ويتأثر بتلك التيارات القومية التي كانت تموج فيها، كان الخليج الأكثر تأثراً بقوة تلك التيارات القومية العربية والإسلامية، وبتأثير انعكاساتها التي كانت تموج في معظم البلدان العربية.

وقد ظهر الشعور القومي بين النخبة المتعلمة والمثقفة، والتي كانت على تواصل مع مثقفي الأمة العربية والإسلامية آنذاك، وعلى الرغم من أن تلك النخبة لم تكن كبيرة إلا أن تأثيرها كان كبيراً في داخل مجتمعات الخليج.

احتفال الدول الكبرى هذا العام بمئوية انتهاء الحرب العالمية الأولى كان مهيباً، فقد اجتمع زعماء العالم الغربي في تأبين ضحايا الحرب وتذكُّر أولئك الجنود المجهولين الذين ذهبوا ضحيتها.

ومما ركز عليه الإعلام الغربي ليس فقط تذكر ضحايا الحرب ولكن في الإشارة إلى أسباب الحروب وكيف يتم تلافي نشوبها مستقبلاً، فمعظم الذين احتفلوا بهذه الذكرى هم من الأجيال التي لم تشهد الحرب ولا تدرك أسبابها ولا تعرف نتائجها، كما أن خريطة العالم السياسية قد تغيرت كثيراً منذ ذلك الوقت وحتى الآن، فقد بادت إمبراطوريات وظهرت إمبراطوريات أخرى ولكن أسباب الحروب عادة ما تُبقي ونادراً ما تتغير.

أسباب الحروب كثيرة ومتعددة منها تعاظم الشعور بالعظمة والقوة والحصول على مكاسب اقتصادية واستراتيجية وسياسية، والاستخدام الأكمل للأسلحة الحربية المكدسة، إضافة إلى ذلك تطمح القوى التي تدخل الحروب إلى لجم منافسيها من القوى الأخرى وشد العضلات أمامها.

ولهذا تظهر أسباب الحروب وتتعاظم بين الفينة والأخرى، وتضطر بعض الدول إلى إعلان الحروب سواء كانت مع الحرب أو ضدها، ولكن العالم الآن أصبح أكثر وعياً للخسائر والأضرار المادية والبشرية المترتبة على الحروب، وبالتالي أكثر حرصاً على تجنب حروب أخرى، كما ظهرت تيارات تنادي بوقف الحروب وتدعو إلى السلام وإيقاف أسلحة الدمار الشامل تجنباً للخسائر البشرية والمادية الطائلة، فمع التقدم العلمي تقدمت أيضاً تقنيات الأسلحة وأصبحت بعض الدول تكدس الأسلحة النووية، والتي يمكن أن تقضى ليس فقط على أهدافها، ولكن على العالم بأسره.

امتلاك بعض الدول لهذه الأسلحة المحرمة دولياً جعلت بعضاً من دول العالم أكثر حرصاً على تجنب الحروب وأكثر حرصاً على منع الدول المارقة من امتلاك مثل هذه الأسلحة أو التهديد باستخدامها. دول عديدة في شرق العالم وغربه تمتلك مثل هذه الأسلحة وتهدد باستخدامها ضد منافسها أو من يهدد مصالحها، وبالتالي تتخذ دول العالم مواقف مضادة لتلك الدول وتضع يدها مع الدول الأخرى المناهضة للحروب وإساءة استخدام القوة في محاولات لإيقاف تلك الدول من إساءة استخدام قواها النووية.

إن ذكرى توقف الحرب العالمية الأولى هي مناسبة لتذكير شعوب العالم كلها بحقيقة مهمة، وهي أن الاستخدام المفرط للقوة وفرد العضلات وإساءة استخدام الأسلحة المتوفرة لديها هي محاولات استفزازية لنشوب حروب كونية أخرى.

وهي أيضاً محاولات كارثية لجلب الشر على العالم وشعوبه أجمع، فلا حرب ممكن أن تنشب اليوم من دون آثار مدمرة على كل دول العالم. ولا حرب ممكن أن تنشب من دون أن تكلف العالم خسائر بشرية ومادية طائلة بدون أي نتائج إيجابية لآي أحد، فالفرق بين حروب القرن العشرين وحروب القرن الحادي والعشرين أن نتائج الأولى محدودة ونتائج الثانية كارثية على البشرية جمعاء.

* جامعة الإمارات

Email