ما وراء التراشق بين ترامب وماكرون

ت + ت - الحجم الطبيعي

التراشق طوال الأسبوع الماضي بين الرئيسين دونالد ترامب وإيمانويل ماكرون، والذي امتد ليشمل غيرهما في البلدين، هو في تقديري، أحد تجليات معركة دائرة الآن بين رؤيتين، قد تؤدي نتائجها لتحول عميق في النظام الدولي، لتظهر أولى إرهاصاته في أوروبا.

فعشية وصول الرئيس الأميركي لفرنسا، لحضور الاحتفالات بمرور مئة عام على الحرب العالمية الأولى، كان التراشق بين الرئيسين الأميركي والفرنسي، قد بدأ بالفعل. فقد صرح ترامب على تويتر، بأنه يعتبر دعوة ماكرون لبناء «جيش أوروبي حقيقي»، بمثابة «إهانة». وما إن بدأ الاحتفال، حتى وجّه الرئيس الفرنسي في خطابه انتقاداً حاداً للنعرات القومية، قائلاً إنها تمثل «خيانة للوطنية».

واعتبرها تمثل العكس تماماً منها، مؤكداً على «إنك حين تقول مصالحنا أولاً، بغض النظر عما يحدث للآخرين، فإنك تقوم بالقضاء على أغلى ما تملكه أي أمة، ويجعلها تنتعش وتصير أمة عظيمة، أي قيمها الأخلاقية»، محذراً من أن «شياطين الماضي تطل برأسها، وتستعد لاستكمال مهمتها في إحداث الفوضى وإشاعة الموت».

ولم يفت على المراقبين أن تلك الكلمات لم تكن موجهة فقط للقوي التي ترفع رايات النعرات القومية في أوروبا، وإنما في الولايات المتحدة أيضاً، خصوصاً بعد أن كان ترامب قد أعلن في أكتوبر الماضي أنه «قومي»، ودعا الأميركيين إلى استخدام «تلك الكلمة» بكثافة.

والكلمة لها في الحقيقة دلالات خطيرة داخل الولايات المتحدة بالذات، إذ هي ترتبط بالعنصرية والتفوق الأبيض. وهو بالضبط ما قاله ديفيد ديوك، أحد عتاة التفوق الأبيض الأميركيين، فور أن استخدمها ترامب. فهو أثني على استخدام الرئيس الأميركي للكلمة، قائلاً إنه لا توجد في أميركا «جماعة إثنية أو عرقية أكثر قومية من البيض».

ورغم أن الرئيسين الأميركي والفرنسي عقدا لقاء قمة في باريس، مؤكدين على عمق العلاقة بين البلدين، فيما بدا وكأنه نهاية للتراشق، إلا أن الرئيس الأميركي فور عودته لبلاده، عاد لتويتر ليكتب سلسلة تصريحات تسخر من الرئيس الفرنسي، مؤكداً على تدني شعبيته، ومذكراً الفرنسيين بهزيمتهم أمام الألمان في الحرب العالمية.

وقد استمر التراشق في صورة تصريحات جديدة للرئيس الفرنسي، قال فيها إنه «لا يصنع السياسة ولا يمارس الدبلوماسية عبر تويتر»، مؤكداً على أن بلاده حليفة للولايات المتحدة، وستظل كذلك «لكن أن نكون حليفاً لك، لا يعني أن نكون دولة تابعة».

ولم يكن ذلك هو رد الفعل الفرنسي الوحيد، إذ قال المتحدث باسم الحكومة الفرنسية، بنجامين جريفو، إن تغريدات ترامب أتت بينما تتذكر فرنسا 130 شخصاً من أبنائها قتلوا منذ سنوات ثلاث، وقال «لذلك سأقول، وبالإنجليزية، إنه كان من الواجب التحلي ببعض آداب اللياقة».

وقد دخل على الخط رموز مهمة من البلدين، إذ وقف بعض خصوم ماكرون السياسيين في صفه، بينما دعا وزير الخارجية الأميركي الأسبق جون كيري، لوقف تصريحات تويتر «فأميركا في حاجة لحلفاء».

غير أن ذلك التراشق ليس الأول من نوعه بين ترامب وحلفائه الأوروبيين، ولن يكون الأخير. ولكنه يجسد هذه المرة أكثر من أي وقت مضى، تلك الرؤيتين المتناقضتين لمستقبل أوروبا.

الرؤية الأولى هي تلك التي يتبناها ماكرون، ومعه أنجيلا ميركيل، والتي تقوم على الحفاظ على النظام الدولي الحالي، وفي القلب منه الاتحاد الأوروبي، عبر دعم ذلك الاتحاد والحفاظ على قوته، بالتحالف مع الولايات المتحدة أو بدونها، إذا لزم الأمر. والرؤية الثانية، لا تتبناها فقط روسيا، وإنما أميركا، تحت حكم ترامب، إذ تعتبر كل منهما أن إضعاف الاتحاد الأوروبي، يصب في مصلحتها. فليس خافياً أن روسيا تجد النظام الدولي الذي نشأ بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، تهديداً لأمنها ومصالحها.

أما ترامب، فقد اعتبر الاتحاد الأوروبي «خصماً» لبلاده، وترى إدارته أن تفكيكه يجعل تنفيذ أجندتها أكثر سهولة، عبر التفاوض مع كل دولة من دوله على حدة. ولم يخف ترامب على الإطلاق دعمه للقوى التي ترفع راية النعرة القومية في دول أوروبية عدة، من المجر وبولندا لألمانيا وبريطانيا، ووصولاً لفرنسا، لأن تلك القوى ترفض الاتحاد الأوروبي، ويمثل صعودها المتنامي تهديداً له.

والمشهد الحالي، والذي لا يمثل التراشق بين ماكرون وترامب، إلا واحدة من تجلياته، يبدو فيه الصراع بين الرؤيتين، وقد أخذ أبعاداً جديدة، عبر دعوة الرئيس الفرنسي «لجيش أوروبي حقيقي»، وهو ما أيدته لاحقاً أنجيلا ميركيل.

أما المقصود بذلك الجيش «المكمل لحلف الناتو»، على حد تعبر ميركل، فقد شرح حدوده جيرارد أرود، السفير الفرنسي لدى أميركا، بقوله إن ماكرون لم يقل إن الهدف منه «أن تحمي أوروبا نفسها من الولايات المتحدة، وإنما مجرد ألا تفترض أن بإمكانها الاعتماد عليها». ولا تزال المعركة دائرة بين تلك الرؤيتين، وستكون لنتائجها تأثيراتها العميقة في مستقبل أوروبا والنظام الدولي برمته.

* كاتبة مصرية

 

Email