ذكريات عن الأزهر.. من طالب أزهري من الإمارات

ت + ت - الحجم الطبيعي

مصر هذا البلد العربي الأصيل الذي يسكن وجدان كل عربي ومسلم بقامته العملاقة وتاريخه الطويل وتراثه الثّرِّ العظيم الذي شكّله منذ فجر التاريخ، ليقوم بدور كبير ويضطلع بمسؤوليات تاريخية جسيمة، وليقدّم للبشرية عطاء وعلماً ما زال جزء كبير من معالمه صامداً حتى اليوم، بحيث غدت مصر متحفاً مفتوحاً لكثير من العهود الماضية، وإن كان أهمها ما اشتهرت به من التراث الفرعوني، متمثلاً في كثير من الصور والتماثيل والآثار المختلفة، وخاصةً الأهرام التي ظلّت شامخة تحكي للعالم قصة الحضارة الفرعونية وتطور عناصر البناء والتحنيط فيها، ما جعل عالم اليوم الذي بلغ قمة تطوره وتقدمه العلمي يقف مبهوراً أمام تلك الإنجازات الفريدة التي بقيت لغزاً محيراً غير قابل للحل.

لقد فتحت مصر قلبها ويديها وقدمت الكثير لأبناء العروبة والمسلمين، وأهمه ما قدمه الأزهر الشريف من خدمات جليلة في مجال العلم والمعرفة الشرعيين، حتى بلغت أعداد من احتضنهم الأزهر ودرّسهم الملايين، ولا ينكر ذلك إلا جاحد وناكر للجميل والمعروف؛ إذ ليس هناك مؤسسة شبيهة قامت بمثل دور الأزهر على مدى طويل من الزمن، ويكفي دلالة على ذلك إنشاؤه «مدينة البعوث» التي تضم في رحابها آلاف الطلبة المبتعثين، وقد تكفل الأزهر بتدريسهم وإقامتهم وصرف لهم مكافآت شهرية، مساعدةً وتشجيعاً لهم على الدراسة والتلقي، ما كان من نتيجته أن حملوا بصدق رسالة الأزهر في قلوبهم فكانوا سفراء مخلصين له ولعلمه الشرعي الذي درسوه في رحابه.

وصل خير الأزهر وعطاؤه إلى كثير من البلدان والشعوب كالإندونيسيين والصينيين والماليزيين والفلبينيين وإلى شعوب القارة الإفريقية، وقبلهم إلى الشعوب العربية، وظل الأزهر إلى اليوم حاملاً مشعل العلم وضياء المعرفة ونشر أصول الدين الصحيح ذي الغاية الهادفة في تقرير الوسطية وخدمة السلم العالمي البعيد عن الغلو والتطرف والتشدد.

يعتبر الأزهر صمّام أمان لطلبته، حيث إن مناهج الدراسة فيه تشكّل تحصيناً للعقول والأفكار من الزيغ والتطرف والتشدد، ولنا في الأزهر حكايات لطيفة ومواقف جميلة وذكريات عطرة لا يزال نفحها يثير في الجوانح الشوق والحنين لتلك الأيام الحلوة التي قضيناها في رحابه.


نعرف قدر الأزهر الشريف فيما قدمه ويقدمه من علوم شرعية، ونستشعر عظم عطاء هذه المؤسسة في نفوسنا التي أربت منذ تأسيسها على ألف عام، وهي قائمة شامخة تمُد يد الخير والعطاء لكل أبناء العرب والمسلمين دون تفرقة، وإنما قياماً بالواجب الشرعي وأداءً للدور الديني.. أقف أمام اسم الأزهر حين يطرق مسامعي كمن يقف لتحية العلم احتراماً وتقديراً وإجلالاً لدوره وخدماته، وأشد ما يغيظني أن أسمع نقداً جارحاً لهذه المؤسسة العلمية الكبيرة عندي أو لمزاً لها من جانب خفي؛ لأن من واجبي أن أكون وفياً لمن علمني وعشت في رحابه سنين هي أحلى سنين العمر وأنضرها ولا يزال بردها رحيقاً في لساني..

أشعر بأنني مدين للأزهر في كل ما تحقق لي في حياتي من نجاح وتوفيق، وكلما سمحت لي الظروف بزيارة مصر، تقودني قدماي إلى حي الدرّاسة الذي يقع الأزهر في رحابه، أتجول في تلك السكك والأزقة وأطوف بشوارع خان الخليلي وأسواقه صامتاً مأخوذاً بتأثير الموقف إلى أن أدلف إلى ساحة مسجد الحسين، أناظر جوانبه وأتأمل جدرانه وزخارف عمارته، لقد كنت يوماً جزءاً من هذا الخليط الجميل المتجانس، حيث كانت دراستي في الأزهر تقودني ربما بشكل يومي إلى هذه البقعة الحية النابضة بمعاني الحركة والزخم والحيوية والنشاط والتجانس المكاني والبشري، والحب والبساطة ومظاهر الحياة الاجتماعية الصاخبة، واستحضار عظمة التاريخ في مثل تلك المباني التاريخية التي مرت عليها حقب من الزمان ولا تزال قائمة قوية شامخة بمعاني تراثها، شاهدة على كثير من الأحداث التاريخية المهمة التي مرت بها.. أقف أمام بوابة جامعة الأزهر بشيء من التأمل والانضباط واستحضار للحظات الحلوة الماضية التي كنت فيها يوماً ما طالباً أدرس العلوم الشرعية في هذه الجامعة العريقة، التي يفصلني عنها اليوم مدى طويل من السنين التي مرت بعد تخرجي فيها..

أدلف إلى داخل الجامعة برجلين ترتجفان وعين تكاد تدمع وقلب ينبض بالحب والوله والحنين، خاصةً عندما أرفع نظري لأناظر على يساري كلية الشريعة والقانون، كليتي التي درست وتخرجت فيها مع مجموعة مختلطة من الطلبة المصريين والخليجيين والعرب والأفارقة والآسيويين وغيرهم، الذين عقدت معهم صداقات جميلة، كان أحدهم حسبما أذكر من جنوب السودان ندعوه الشيخ رمضان، يتكلم العربية بصعوبة ويحرص على ارتداء جبة الأزهر وعمامته، حتى يبدو كأنه جزء من المكان، كان حافظاً لكتاب الله عن ظهر قلب، وكلما سنحت له الفرصة بين الحصص يأخذ جانباً من المكان يتلو ما يحفظه من آيات القرآن الكريم، وكان كما أخبرني يسمّع كل يوم جزأين من القرآن غيباً حتى لا ينساه، وكان آخر من السنغال اسمه محمد سناكو يأتي إليّ في شقتي التي أسكنها، ويذاكر معي بعض الدروس، وزميل آخر من غانا يعد نفسه بعد تخرجه ليكون مدرساً في كلية الشريعة في بلده، كل منهم كان يحمل حلماً في نفسه يسعى إلى تحقيقه بعد تخرجه في الأزهر، ولا أدري اليوم أين تشعبت بهم دروب الحياة وظروفها، ولا أين وصلوا في تحقيق أحلامهم.. لقد أسهم الأزهر، خاصة لمثل هؤلاء الفقراء الذين أحبوا العلم وسلكوا طريقه، إسهاماً فاعلاً وخيّراً في تحقيق كثير من أمنياتهم العلمية والحياتية، ويَسّر لهم السبل الكفيلة بذلك، فجزاه الله خير الجزاء عنا وعنهم جميعاً.

تتميز مباني الأزهر بجمال عمارتها وعراقتها على الشكل القديم اللافت الذي اختفى من واقع الحياة المعاصرة، لتحل محله عمارات ومبانٍ بمواصفات وأشكال حديثة ليس لها الرونق والجاذبية التي تميزت بها العمارة القديمة.. عن يمينك وأنت داخل من بوابة الأزهر قاعة محمد عبده، هذا العالم الجليل بزيّه الأزهري الجميل، والاسم الشهير الذي لا يغيب عن الذهن، للدور الذي قام فيه بالدعوة إلى الإصلاح والسعي الدؤوب لتحقيقه في مجتمعه الذي كان يمثل نقطة انطلاق نحو التيسير والتطوير والعصرنة.. وأنت واقف في مكانك تكون مواجهة لك كلية اللغة العربية وكلية أصول الدين، مبانٍ وأشكال مميزة جميلة ولافتة وعريقة يفوح منها عبق التاريخ العطر، ما زالت ترتسم في وجداننا وتختزنها ذاكرتنا بتفاصيلها ودقائقها..

كنا نمرّ في تلك السكك الضيقة حول الأزهر ونتجول في تلك الحواري العابقة بالضجيج والصخب والحركة ونداءات البائعين وأصوات المارة والمتحدثين في المقاهي؛ إذ يعشق المصريون الضوضاء والصخب، خاصة في الأماكن القديمة، حيث يعتبر هذا الصخب والضجيج جزءاً وعلامة أصيلة من نسيج المكان وكينونته.. ولا تزال ذكرى تلك الأماكن الحلوة عالقة بالذاكرة والنفس كأجمل وأبدع ما تكون اللحظة المعيشة التي تربطك بماضي المكان وتاريخه القديم الذي لم يبق منه سوى هذه المباني التاريخية الدالة عليه، التي تحتفظ بروائحها وأشكالها وإيحاءاتها التي تميزها وترفع مقدارها عن غيرها من الأمكنة الحديثة التي لا تشغل البال ولا تشد الذهن.

تبقى هذه الذكريات حية في وجداننا ومشاعرنا؛ لأنها جزء من تاريخ عشناه في مصر وفي رحاب أزهرها الشريف، وكأنه لا يزال وليد اللحظة.. لقد كان لنا في تلك السكك والأزقة القديمة ذكريات نابضة بالشوق والحنين، وكان لصدى الحركة والضجيج في هذه الأمكنة ذكرى مغروسة في الأعماق تذكرنا بذلك الزمن الجميل، وبتلك الأمكنة البديعة التي ما زالت تكسو المكان روعة وإجلالاً..

كنا نأتي إلى الأزهر أيام امتحاناتنا مبكرين في الصباح وندخل إلى داخل مسجد الحسين، ذلك المسجد المزروع في تلك الساحة الشامخ بمآذنه وأبوابه الجميلة وعمرانه الفريد، الذي يعد جزءاً أصيلاً من مفردات ذلك المكان ومعالمه المهمة التي تستقطب كثيراً من السائحين والزائرين والمصلين، ندخل إلى داخله ونتخذ مكاناً في أحد زواياه نذاكر فيه دروس الامتحان، ثم نخرج منه متجهين إلى أحد المطاعم المنتشرة حول الساحة بكثرة، التي تقدم أصنافاً من المأكولات الشعبية لنفطر على شيء مما تشتهر به تلك الأصناف من أهمها «البليلة»، ثم نخرج منه إلى قاعة الامتحان داخل كلية الشريعة والقانون، على شيء من الخوف والتوجس من صعوبة الامتحان، حتى نخرج منه وقد ارتسمت على مُحيّانا أسارير الفرح وعلامات السرور.. فللَّه ما لتلك الأيام من ذكريات في نفوسنا بقيت مع الزمن نابضة حية في أعماقنا حتى هذه اللحظة، نحنُّ إليها حنين الواله المشوق، ولا يزال الأزهر من منطلق تلك الذكريات، ولا تزال معه مصر ساكنة شغافنا وعقولنا.

لا يمكننا أن ننسى ما حظينا به في الأزهر الشريف من دراسة وعلم، ولقد تأقلمنا مع مفردات وتفاصيل الحياة اليومية في مصر لغة وتقاليد وخفة ظل ونكتاً سائغة معبرة تختزن في طيات خفتها كثيراً من النقد والملاحظات التي تميز بها الشعب المصري البسيط الذي يستوعب القادمين إليه، وسرعان ما يتأقلمون ويندمجون في حياته على الرغم من صعوبة بعض جوانبها.. لقد عشنا فترة من حياتنا الدراسية في المجتمع المصري، واختلطنا به وبكثير من تقاليده الاجتماعية، وأصبحنا جزءاً من نسيجه، حيث كنا نجيد التحدث بلهجته وطريقته وكأننا من أفراده..

لقد غطّى أبناء الإمارات المبتعثون للدراسة في مصر في فترة السبعينيات من القرن الماضي، مساحة كبيرة من كليات وجامعات مصر العريقة في الأزهر وعين شمس والقاهرة والإسكندرية، وفي كثير من التخصصات، وكان خريجو الدراسات الجامعية في مصر من أقوى الخريجين الذين اعتمد عليهم وأتيحت لهم فرص كبيرة لحمل لواء بناء الدولة الاتحادية في مراحلها الأولى، الذين وصل عدد كبير منهم إلى أعلى المناصب، وأسهموا بإخلاص وفاعلية في بناء وخدمة دولتهم الفتية.

لقد استوعبت جامعات وكليات مصر أعداداً كبيرة منهم، حتى إنني أذكر أن عددنا في عام ابتعاثنا للدراسة كان كبيراً، إضافةً إلى من كان قبلنا ومن جاء بعدنا، فقد كان جزء كبير من الفضل في ذلك يعود لمصر وللأزهر بالنسبة إلينا نحن الأزهريين.. لقد كانت لنا في مصر وفي الأزهر بالذات ذكريات كثيرة تحتاج إلى استذكار وتسجيل، لأنه من الأهمية بمكان عرضها أمام أعين أبناء الحاضر، ليعرفوا كم لمصر وكم للأزهر من أفضال على آبائهم في بداية تأسيس هذه الدولة الفتية.

لقد حرصت أشد الحرص في جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم، وأنا أتولى رئاستها، على أن أسعى لتكريم جامعة الأزهر التي رويت جزءاً من أهميتها ومن فضلها وخدماتها التي قدمتها لنا نحن وسائر طلبة العالم الإسلامي والعربي، لتكريمها شخصية العام الإسلامية، كما كنت بالحرص والرغبة ذاتهما أسعى لتكريم شيخ الأزهر فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شخصية العام الإسلامية، إذ يعتبر فضيلته عنوان الأزهر في مرحلته الحالية، وحامل مشعل ضيائه للعالم، إذ يعبّر فضيلته في حقيقة شخصيته عن حكمة الأزهر ودوره ومواقفه وخدماته الكثيرة والكبيرة.

والحمد لله، إذ كان لي في هذه الناحية شيء بسيط من رد الجميل من خلال هذه الجائزة المباركة للأزهر عامة، جامعة ومشيخة.. فالأزهر أهلٌ لكل تقدير وتكريم؛ لما قدمه ويقدمه من خدمات، ولإسهاماته الكبيرة في مجال العلم والمعرفة على مدى عقود طويلة من الزمن، ولا يزال دوره قائماً وبستانه يانعاً لأعداد كثيرة من الطلبة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فما أجمل تلك المهمة، وما أعظم تلك الخدمة التي ميّزت الأزهر وأعطته ذلك البُعد والأهمية لدى المسلمين، فحفظ الله الأزهر، وأثاب مشيخته والقائمين عليه خيرَ الجزاء.

Email