السودان.. أرض التقاء الحياة

ت + ت - الحجم الطبيعي

سأغادر اليوم منصة التحليل السياسي في الشأن الأفريقي، وأتشرف بالوقوف لأحدثكم عن منصة العلم وقلب المعرفة، ومنبع العزة، أرض التقاء الحياة.

كما أسميتُها، أرض الإمام محمد المهدي مؤسس الدولة السودانية المستقلة، وأرض الشهيد عثمان دقنه الذي عندما زاره الإمبراطور جورج الخامس ملك بريطانيا في زنزانته انشغل عنه بالصلاة حتى لا يتحدث معه، أرض المُفكرين والعلماء، أرض بُناة نهضة الشعوب، أرض الوجوه الطيبة والنفوس الطاهرة، أرض المحبة والسلام رغماً عن أعدائها «الـسودان».

تضاربت الأقوال حول أصل اسم السودان، فالقدماء المصريون كانوا يطلقون عليها تانهسو وتعني أرض السُمر، أما خع سخموي آخر فرعون في الأسرة المصرية القديمة فكان يطلق عليها اسم تكاني وتعني أرض الأقواس.

كما أطلق عليها اسم نحسيو واشتق منها لفظ «بانحس أو فنحاس» بمعنى النوبي، أما العرب فأطلقوا على السودانيين اسم (رماة الحدق) بعد هزيمة جيشهم بقيادة عبدالله بن أبي السرح الذي تصدى له جنود النوبة والذين عُرف عنهم قوتهم وبراعتهم في تصويب الرماح نحو حدقة العين مباشرة، وأشارت بعض المصادر إلى أن العرب أطلقوا على السودان أيضاً اسم الكنز لتدل على مضمونها العربي بمعنى المال والذهب لترادف ثروة المنطقة.

توجهت بي طائرة طيران الاتحاد إلى العاصمة السودانية الخرطوم أول مره في حياتي في خريف 2008، كانت الرحلة هادئة والطائرة شبه فارغة من الركاب .

ولم يكن معي في تلك الرحلة ما يؤنس وحدتي ويطوي عني مشقة السفر إلا كتاب لمستُ في عنوانه شيئاً من الإثارة والتشويق أقنعني بأنه سيؤدي دوره في كسر رتابة الرحلة وكان حدسي في محله فكان لي نعم المؤنس، وما إن أنهيت قراءتي حتى جاءني صوت المُضيفة من خلفي تطلب مني ربط حزام الأمان استعداداً للهبوط إلى مطار الخرطوم الدولي.

وما إن فتحت النافذة الواقعة على يساري وبدأتُ أحدق من الجو في عاصمة المهدي وسرحت بفكري الذي خيل لي حينها بوجود وحوش ضارية تفترس كل من يقترب منها، انتابني في تلك اللحظة شعور المتولي يوم الزحف ولكن هيهات أن يغادر أرض المعركة، هبطت الطائرة بسلام إلى مطار الخرطوم وغادرتُ مقعدي مُتثاقلة ومتوترة بعض الشيء وودتُ لو أعود أدراجي، وما إن وصلتُ لصالة الوصول حتى كان في استقبالي مندوب سفارة دولة الإمارات في الخرطوم الذي ما إن عرفني بنفسه حتى هديت من روعي.

وفي صباح اليوم التالي تم الانتهاء من إجراءاتي الرسمية استعداداً للالتحاق بقلعة العلم جامعة النيلين، وما إن مضى شهران على وجودي في السودان حتى بدأت أتعرف على أهله وعلى ملامح ذلك البلد فكانت نقطة التحول الحقيقية في حياتي ولم أعد بعدها كما كنتُ أبداً. وجدت أرض المقرن أجمل بكثير مما كانت تصوره بعض أجهزة الإعلام العالمية على عكس ذلك.

وجدت السودان صارماً حازماً تارة ورقيقاً دافئاً تارة أخرى، وجدته أشبه برجل صادق يمتلك كل صفات الرجولة الحقيقية ولكنه لا يُصرح بها ليقينه أن الرجولة تتحدث بأفعالها لا بأقوالها فوقعتُ أنا في أسره، وجدت أرض رماة الحدق أصدق وأعمق وأكبر مما يمكن أن أخطه اليوم في سطور مقال،.

وجدتُ أهل السودان يُسابقون الزمن للحصول على المعرفة ويتحدون كافة الظروف للوصول إلى النجاح، وجدتهم شعباً لا يقبل المساس والجدل في تاريخ بلادهم وهويتها ولا يلتفتون لمن يريد لهم التقهقر، وجدتهم أنقياء كرماء تجمعهم الصلاة لرب العباد ويخشون أن تفرقهم السياسة.

تأرجح السودان منذ استقلاله بين صراعات سياسية واقتصادية أذكتها التدخلات الخارجية بدءاً بمشكلة الجنوب وانتهاء بدارفور التي أفضت إلى تعرض الخرطوم لعقوبات دولية أفقدتها القدرة على الاستمرار في التنمية ما جعل السودان يعيش في حلقة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، ولكن كان للسودان سند أفريقي عربي وخليجي أمام تلك التطورات المتلاحقة أعاد إليها توازنها كلاعب مهم في منطقة القرن الأفريقي.

من السودان تعلمت ومن علمائها نهلت ومن مفكريها أدركتُ قيمة العلم، ودائماً وأبداً أذكر نفسي ومن حولي وفي كل مناسبة أنه لولا السودان ولولا الأساتذه السودانيون الأجلاء ما كنت لأكون، واسمحوا لي أن أذكرهم بالاسم فهم القاعدة الثابتة التي أرتكز عليها للأبد:

البروفيسور حسن الساعوري، البروفيسور محمود الداني، الدكتور مصعب عبدالقادر، الدكتور مرتضى الطاهر، الدكتور الطاهر الفادني، الدكتور بهاء الدين مكاوي، الدكتور أسامة زين العابدين، الدكتور محمد مجذوب، الدكتورة رحاب عبدالحي.

وأخيراً أشكر القدر لإعطائي تلك الفرصة التي أعدت فيها اكتشاف نفسي، ولا يسعني في هذه اللحظة إلا أن أشكر كل لحظة جمعتني بالسودان وأهله وبمعدنهم الثمين، شكراً للسودان حكومة وشعباً شكراً لهم جميعاً.

* باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي

Email