هل حقاً القناعة كنز لا يفنى؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

كثيراً ما نقول ونضرب المثل بجملة «القناعة كنز لا يفنى» ولكن ألم يخطر في بالنا يوماً أن هذه الجملة مستفزة في استخداماتها وحتى في قناعات البعض حولها،.

وأستغرب فعلاً كيف تكون القناعة كنز لا يفنى رغم أن المقتنعين بهذه الجملة هم من الذين فنوا وانتهوا وبقيت قناعاتهم لا تفنى! فالقناعة بمفهومها الحالي هي الاقتناع بأن هذا هو نصيبنا وقدرنا فلن نبلغ المزيد مهما فعلنا وحاولنا، وهنا تكمن مشكلتنا مع هذه القناعة التي لا تفنى!

هناك الكثير من الأشخاص في هذه الحياة يقبلون بالقليل مهما كان، ويستمرون في قبول هذا القليل حتى يفنوا معللين سبب سكونهم أن قناعتهم بنصيبهم هي الكنز الذي يصحح وضعهم، وأنا هنا لا أتحدث عن المردود المادي فقط، إنما قصدي وكل قصدي هو الطموح وعدم القبول بالوضع الراهن مهما كان جميلاً، بل التطلع للأمام والبحث عن المزيد من الجمال والمزيد من النجاحات.

وبهذا يكون الطموح هو الكنز الذي لا يفنى، ولن يفنى ما دمنا طامحين إلى حصد الألقاب، لن يفنى ما دمنا من أولئك المتطلعين لتطوير ذواتهم لبلوغ أهدافهم والارتقاء عالياً خطوة تليها خطوة. كثيراً ما يصادفني في المجتمع أناس يخنعون لدرجة الذل لواقعهم وعندما تسألهم عن سبب صمتهم يجاوبونك بمزيد من الهوان «هذه قسمتي وهذا نصيبي».

ومن الذي قال إن هذا نصيبك؟! ومن الذي قال إن هذا الحد من الدنيا هو قسمتك؟! أنا أقول لك من الذي قال هذا وكتبه وصدقه؛ هو أنت ليس سواك أحد، فأنت من كانت قناعتك إلى هذا الحد واكتفيت به لدرجة أنك اقتنعت كامل الاقتناع بأن هذا هو الحد الأقصى من نصيبك في هذه الحياة.

ومثلك مثايل كما نقولها بالعامية، فالقاع مزدحم والصعود منه ليس إلا لأولئك الطامحين المتطلعين للأفضل والأحسن والرافضين واقعهم ويريدون تحسينه وتجميله. قد نلام في مقالنا هذا إذ يعده البعض أننا نحث على الجشع والطمع، بل على العكس تماماً فليس هذا هدفنا ولا هي رسالتنا، إنما للصعود طريق واضح المعالم لا يحيد عنه إلا ضعاف النفوس،.

وإنما استخدمنا هذه العبارات لتعلم عزيزي القارئ أن النجاح يحتاج لهمة، يحتاج لطمع في أن تكون أفضل، يحتاج لطلب المستحيل، يحتاج لشراهة في تعلم المزيد، يحتاج لنهم والاستمرار في نفس ذات الدرجة من النهم خطوة بعد خطوة بلا توقف حتى لو وصلت للقمم، فلكل قمة؛ قمة تعلوها. فرق كبير بين الرضا بتقدير الله وقسمته، وبين قناعاتنا بأن هذا هو نصيبنا الكافي والوافي.

وفي هذه النقطة لَبس عظيم، فكثيراً ما نسمع في حواراتنا ونقاشاتنا جملة «هذا نصيبي اللي الله كاتبه»، وهذه جملة مغلوطة في فكرها وإن صح تعبيرها، فالكثير من الأشخاص يعتقدون أن الله يكتب لنا كل شيء في هذه الحياة بشكل مطلق ونحن ليس لنا الخيار في تغيير واقعنا.

وهنا نرجع لقضيتنا الجدلية «هل نحن مخيرون أم مسيرون؟»، وفي حقيقة الأمر أننا مخيرون ولكن من واسع علم الله يعلم ما هي اختياراتنا وكيف ستكون نتائجها فيسيرها كيفما يشاء ليلطف بحالنا، وهذا بعيد كل البعد عن أن نقتنع بأن الحد الذي وصلنا إليه هو الحد النهائي، بل بإمكان أي شخص أن يكتب حياته كيفما يشاء، في القاع المزدحم، أو يعلو كما تعلو النجوم وسط السماء.

القناعة كنز يفنى، فمهما قبلت بواقعك واكتفيت بقدرك سيأتي اليوم الذي يفنى هذا الواقع، ولن تجده لك شفيعاً في ظلمات الليل ولا حتى في وضح النهار، ولكن إن عودت نفسك أن تمتلك التطلع لتغير من واقعك للأفضل على جميع الأصعدة والدرجات، وكلما بلغت حداً وضعت الحد الذي يليه نصب عينيك حتى تبلغه وتستمر على هذا المنوال حتى ترضى الرضا الكامل عن حياتك وتعيش مرتاحاً راضياً عن إنجازاتك وبما حققته خلال مسيرتك.

ودعك من أولئك الذين يمضون ثلثي عمرهم في نفس الدرجة الوظيفية، والمكانة الاجتماعية من دون أن يكون لديهم ولو مرة فكرة تحدي هذا الواقع وكسر جدران المستحيل. هذا هو الفرق بين الناجحين والناجحين ولن أسميهم اليوم بالفاشلين.

فقد يعد الكثيرون أن هذا الموظف الذي حافظ على مكان عمله بذات المهام والمكانة سنوات طوالاً وترك أمر الترقية لعامل سنوات الخبرة وشروطها الاعتيادية من الناجحين، وهو كذلك لن أحبطه، ولكن الأنجح هو ذلك الذي منذ أن داست قدماه أولى درجات العلم والمعرفة وهو ينظر لأعلى المراتب، الأنجح هو ذلك الصبي الذي احترف مهنة معينة وأتقن دوره فيها وطمح إلى أن يكون الأفضل في مجاله وعلى هذا النحو تقاس الأمور. ما زلت وسأظل ممن يكرهون هذه الجملة «القناعة كنز لا يفنى» وأرفض اقتناعاتها جملة وتفصيلاً.

فمن يريد العلا يتجاوز ألم الليالي وليس يسهرها فقط، ومن يريد التفوق لا يطلب العلم في الصين فقط بل في القطب الشمالي، إن أراد الواقع أن نتحداه بمثل هذه المجازفة، وسيبقى الطموح والتطلع في الارتقاء هو الكنز الذي لا يفنى.. صدقوني.

* كاتب وإعلامي

Email