أذن العربي

ت + ت - الحجم الطبيعي

واقع الحال يقول إن كثيراً من العرب يؤثرون «الكلام» على الإنصات. غير أن المتأمل لتاريخنا العربي، يجد أنه لولا ممارسة العرب لفضيلة الإنصات الجيد، لما وصلتنا بدائع ديوان العرب المذهلة.

والأهم من ذلك، لما وصلنا كتاب الله عز وجل، ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، حيث نقلتا من صدور الناس (عبر آذانهم)، إلى النصوص المكتوبة. ومن ألمع نجوم فضيلة الإنصات، جدنا النابغة الذبياني، إذ كان يصغي جيداً تحت قبة من أدم (جلد)، ضربت له في قلب سوق عكاظ. ليتحاكم إليه الشعراء أيهم أشعر، إذ كانوا يتباهون بفصاحتهم وفضائلهم، أي كانوا «يتعاكظون» في السوق.

كما قال الخليل بن أحمد، بأن العرب تجتمع في السوق «فيعكظ بعضهم بعضاً بالمفاخرة والتناشد: أي يُدعك ويُعرك». إذن كان عكاظ سوقاً للآذان المصغية، وليس ميداناً للثرثرة. فلولا حسن إنصات مرتاديه، لما وجد الشعراء أحداً ينقلون إليه روائعهم.

ولا ننسى أيضاً جدنا قس بن ساعدة، حكيم العرب، الذي كان يتحلق الناس حوله رغبة في الإصغاء إلى درره. وكان المصطفى صلى الله عليه وسلم نفسه، يستمع إليه، حيث قال عنه: «رأيته بسوق عكاظ على جمل أحمر وهو يقول»: «أيها الناس، اسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت». وكانت هذه كلمات جزلة ومليئة بالعبر.

اللافت أن قس بن ساعدة كان يؤسس للأذن العربية منهجاً أساسياً في قواعد الاستماع، حينما قال «اسمعوا وعوا». وهذه الجملة البليغة، هي ما بنى عليه المختصون الغربيون في فنون الإنصات والتواصل أساسيات فهم الرسالة الشفهية. فكيف للمرء أن «يفهم» ما يقال قبل، أن «يسمعه جيداً» في المقام الأول، لكي «يعيه». وليس للإنصات قيمة أصلاً، ما لم يعي المرء ما يتناهى إلى أسماعه.

وفي العصر الحديث، كانت أذن العربي مع موعد حقبة جديدة، وهي الإذاعة، لتذكّره بأن حسن إنصاته سيزوده -لا محالة- بمعلومات هائلة ومنوعة. وقد نال شرف تلك الانطلاقة، المذيع كمال سرور، حينما قال العبارة الشهيرة «سيداتي سادتي، نحن نذيع اليوم من لندن باللغة العربية للمرة الأولى في التاريخ».

فكانت هذه العبارة التي افتتح بها أول بث إذاعي عربي عبر البي بي سي عام 1938، بمثابة التدشين الرسمي لمسيرة الثقافة والتعلم الشفهي للإنسان العربي الحديث.

وقرأت في مجلة المستمع العربي المهترئة، تلك العبارة، وكثيراً مما نشرته بي بي سي، الأمر الذي يجعلك تندهش من حجم المعلومات الشفهية وتنوعها، حينما تتأملها كنصوص. فمنها زوايا متعددة، مثل «عالم الأدب، وأصحاب الرأي، ومن ثمرات المطابع، والحديث الثقافي، في ربوع بريطانيا، والتجارة والصناعة، وفي ركاب العلم»، وكان ذلك بعد أن تحول اسمها إلى مجلة «هنا لندن».

وكانت واسعة الانتشار في العالم العربي في حقبة الأربعينيات، حسبما ذكر المستشار الإعلامي رضا سالم الصامت، في مقال له.

ولو تخيّر العربي مجالسه أو برامجه التي يشاهدها أو يسمعها، لأثرى أذنه وعقله بمعلومات هائلة وماتعة. مشكلة الملل الذي ينتابنا أننا نجبر آذاننا على الاستماع لأحاديث بالية ومكررة، وننسى أن التنوع سُنة الحياة، ودافع للتفكير والتأمل واكتساب الحكمة والموعظة، بل وحتى المهارة.

فليس كل المعلومات المهمة نجدها في كتاب، ذلك أن أعظم تجارب الناس ومعلوماتهم لم تدون في نصوص، بل جاءتنا عبر الألسن. وهنا، تبرز أهمية أن نصغي جيداً لمن يستحق، علّنا نُراكِم لدينا شيئاً من المعرفة الممتعة والمفيدة. وكما قيل بأننا مُنحنا أذنين وفم واحد، ربما لنصغي ضعفي ما نتحدث.

* كاتب كويتي

 

Email