هرمت المنطقة لكن شبابها قادمون

ت + ت - الحجم الطبيعي

أحد أبرز العناوين في «منتدى شباب العالم» الذي تستضيقه مدينة شرم الشيخ المصرية حتى يوم 6 الجاري هو «آليات بناء المجتمعات والدول فيما بعد الحروب والنزاعات». يدق العنوان على أوتار بعضها مشدود حتى درجة الانفجار، والبعض الآخر مترهل بطريقة تستدعي القلق وتستحضر الوجل.

فما جرى في المنطقة العربية على مدار سنوات قليلة مضت جرى، وليس مجالنا حالياً للخوض في الأسباب والعوامل. وما لحق بالكثير من دول المنطقة من دمار بسبب الصراع لا يتوقف عند حدود تدمير البنى التحتية والمكونات الحياتية وحتى الآثار التاريخية، لكن يمتد لما هو أبعد بكثير وأخطر بمراحل. فتدمير البنى النفسية والمكونات العصبية وما يعنيه ذلك من آثار لم تفرق بين كبير وصغير، أو رجل وامرأة لكن عدلت في توزيعها فنال الجميع قدراً من شظاياها، وحظي الكل ببعض من تبعاتها.

قتل وجرح مئات الآلاف، وتدمير بنى تحتية وفوقية، وتفتيت كل ما تم إحرازه من تقدم ولو نسبي على مدى عقود مضت في كفة، وما لحق ببني البشر النفسية والعصبية، وما ضرب العلاقات الاجتماعية من تفسخ وتحزب في كفة أخرى.

ولا يخفى على أحد أن الأبطال الرئيسيين في مشهد الحروب والنزاعات، والمشاهد التالية لها من محاولة لملمة آثار الدمار ومعاودة الحياة بشكل أو بآخر، هم الصغار. منهم من شاء حظه العثر أن تكون الصراعات ومشاهد القتل وتفاصيل الكراهية والبغضاء ويوميات النزوح والهروب هي رفيق خبراته الأولى أثناء سنوات طفولته ومراهقته، ومنهم من خرج إلى نور الحياة في كنف صراع مسلح هنا أو حضن قتال بغيض هناك، أو محاولة هجرة غير شرعية أو لجوء غير مأمون العواقب هنا وهناك.

مفهوم بالطبع أن يكون لهذا العنوان «آليات بناء المجتمعات والدول فيما بعد الحروب والنزاعات» دعائم سياسية وأمنية وعسكرية، لا سيما وأن أغراض هدم الدول وتفتيت منابع قوتها البشرية قبل المادية كانت على رأس أهداف الصراعات، لكن يبقى الدور الثقافي والاجتماعي والنفسي والعصبي في القلب من كل عملية إعادة بناء.

إعادة البناء دون إعادة ترتيب البيت من الداخل قد تأتي بنتائج سريعة ولكنها غير مستدامة. وإعادة ترتيب البيت من الداخل، وتقوية منابع قوته وأواصر همته مع التخلص المأمون والتخلي المدروس من النفايات الضارة والمخلفات المؤذية حتى لا تعاود الهجوم أمر بالغ الأهمية في عملية البناء بعد الصراعات، لا سيما من النوعية التي استفحلت في منطقتنا العربية.

وما من طريق أبلغ أو أقصر لتحقيق ذلك أكثر من التدقيق في ماهية التراث الثقافي وتنقيحه وتحديثه، مع ضرورة سن عقد اجتماعي فعّال وقابل للتطبيق يقوم على الأخوة والمساواة والعدل والمواطنة، وجميعها أذكى السبل وأقواها لوأد الاختلافات والخلافات القائمة على أساس الدين والعرق.

الدق على أوتار الدين والعرق والنوع والانتماء قوة خشنة وغليظة وثقيلة. وفي المقابل تقف القوى الناعمة التي لا تضاهي قرينتها الخشنة من حيث الوزن أو القدرة على الفتك، لكنها تبيدها بجرة قناعة دون إرغام، وسلمية قائمة على عقيدة، فكرة تواجه فكرة.

أفكار وموضوعات منتدى شباب العالم الذي يحوي شباباً وزعماء دول ومسؤولين من 145 دولة تدور في فلك الشباب. فمن مستقبل الأمن المائي وتصورات تحقيق السلام، لحاضر الذكاء الصناعي وموقف الهوية من مواقع التواصل الاجتماعي، لدور المساعدات الإنسانية والشراكة الاستراتيجية في التعاون الأورومتوسطي تدور الجلسات والحوارات.

«الحوار» الذي ظل شباب المنطقة العربية يفتقدونه على مر عقود، تارة تحت وطأة ثقافة أفرطت أحياناً في الإبقاء على الكبار وتهميش دور الصغار، وتارة أخرى بسبب دوائر فقر مغلقة أو معضلات متوارثة أو مخططات متعددة الجنسية لإبقاء المنطقة تحت رحمة الصراعات العقائدية والنزاعات السياسية والمنافسات الأيديولوجية يفرض نفسه بقوة في المنطقة.

المنطقة العربية لم تعد فقط منطقة صراعات أبدية واحتقانات مزمنة، لكنها باتت منطقة شابة بمكوناتها الديموغرافية ومواردها البشرية وأولويات قيادات عدة أثبتت بالحجة والبرهان أن تمكين الشباب صار أولوية فعلية وليس مجرد فعالية على هامش ندوة.

ومن شرم الشيخ، حيث فعاليات «منتدى شباب العالم»، إلى الإمارات العربية المتحدة، حيث إحدى أكبر وأهم وأسبق تجارب تمكين الشباب عربياً. فقد ضربت الإمارات مثلاً يحتذى وقدمت نموذجاً متفرداً في تمكين الشباب في المنطقة العربية، وذلك عبر استراتيجية وطنية للتمكين، ووزراء ووزيرات ضمن الأصغر سناً في العالم، ومبادرات لتشجيع الإبداع وتحفيز مهارات الشباب وملكاتهم، واهتمامات قصوى بالحاضر الرقمي ومستقبل الثورة الصناعية الرابعة وقائمة طويلة من الخطى الثابتة التي رسخت مبدأ قوامه «الشباب هو التوجه الرئيسي».

هنا تقدم دول عربية نماذج فعلية لما ينبغي أن تكون عليه منطقة 60 في المئة من سكانها تحت سن 25 عاماً. لقد شابت المنطقة بأحداثها، لكن شبابها قادمون للإنقاذ.

Email