العلاقات الخليجية ــ الكونغولية

ت + ت - الحجم الطبيعي

يقول شاعر أفريقيا الأول بانكول رينر في قصيدته الرائعة الكونغو الأبتر «عشرات السنين وأبناؤكِ ينزفون الدماء كي تُبنى مُدن بلجيكا ولما رفض أفريقيو الكونغو أن يجمعوا للمُستعمر المطاط الأحمر تلقوا حضارة المذابح والتقتيل».

من أرض الزعيم الروحي للكونغو وقائد النضال الوطني في أفريقيا «باتريس لومومبا» ومن أكبر مدن أفريقيا جنوب الصحراء ومركز الموسيقى الأفريقية الحديثة، من ربوع أفريقيا الساحرة التي ما إن تجولت بناظري في جغرافيتها المصنوعة وتاريخها العريق ومستقبلها المُحير وشعبها المضطرب حتى أيقنت بأن أفريقيا أمام مخاض عسير تعيشه اليوم من أقصاها إلى أقصاها مبشرة بحياة قادمة لن تقبل إلا بأن تربح بعد قرون من الموت المتجدد، من العاصمة الكونغولية كينشاسا أكتب إليكم مقالي اليوم.

على أثر دعوة كريمة من معهد العلوم الاستراتيجية والأمنية في العاصمة الكونغولية كينشاسا قمت بتقديم ورقة علمية بعنوان: «العلاقات الخليجية-الكونغولية» وذلك بعد قيام مجموعة راكومسكو للتطوير العقاري بافتتاح مشاريعها في العديد من المدن الكونغولية من كاتاتغا إلى كينشاسا

تعتبر الكونغو الأغنى عالمياً بالموارد الطبيعية وهذا ما سبب لها ما يُعرف بلعنة الموارد والتي كانت سبباً في تنافس القوى الدولية، أضف إلى ذلك امتلاكها لحوض الكونغو، فأهم ما يميز نهر الكونغو هو عدم وجود دلتا له ولديه قوة هائلة في دفع الماء إلى البحر وهذا يعني أنه أغزر من نهر النيل وهذا ما أدركته القاهرة وجعلها تطرح في يوم ما مشروع ربط نهر الكونغو بنهر النيل، والذي إن قام فإنه سيحقق الاكتفاء الذاتي من الكهرباء لمصر والكونغو والسودان، لكن المشروع لم يتم بسبب تكلفته العالية، وما كان يدعم نجاح هذا المشروع أن القانون الدولي يسمح لأي دولة فقيرة مائياً أن تقوم بسحب مياه من أي دولة حدودية أو متشاطئة معها شرط موافقة تلك الدولة «الغنية بالمياه»، وفي حال جرى تنفيذ المشروع فإن فكرة إحياء مشروع نقل المياه إلى دول الخليج العربي من السودان بأنابيب عبر البحر الأحمر ستكون واردة لوفرة المياه وعدم اعتراض دول الحوض الأخرى على هذا الإجراء كونه يدخل ضمن السيادة السودانية ولا يؤثر على حصص المياه لدول الحوض.

تنوعت الاستثمارات الخليجية في الكونغو ففي مجال الاتصالات دشنت مجموعة الظبي الاستثمارية الإماراتية استثماراتها في قطاع الاتصالات مؤكدة أن هذا القطاع من أكثر القطاعات نمواً، وفي مارس 2018 فازت شركة موانئ دبي بتطوير ميناء بانانا الكونغولي الذي سيربط الكونغو بخطوط التجارة العالمية، كما تولت دول الخليج العربي مجموعة من المشاريع الزراعية والنفطية في جمهورية الكونغو بالتعاون مع شركات عالمية، وتوقعت وكالة موديز للتصنيف الائتماني أن ينمو اقتصاد الكونغو بفضل ضخ الاستثمارات الأجنبية في قطاع التعدين والاستهلاك، إلا إن الاستثمار الخليجي اعترضته بعض المعوقات أهمها:-

• ارتفاع الأنشطة الاقتصادية غير القانونية في الكونغو والتي لا تُذكر في إحصائيات الناتج المحلي الإجمالي مما دفع الحكومة إلى إنشاء مناطق اقتصادية خاصة والتي ركزت على الصناعات الزراعية والتعدينية.

• الاختلال الواضح بين العرض والطلب والذي تسبب في انتشار القطاعات الاقتصادية غير الرسمية، كما أن الشركات الصغيرة والمتوسطة تشكو من إطار تنظيمي غير مُلائم مما أسفر عن انخفاض في نشاطاتها وعدم قدرتها على المنافسة.

• افتقار الكونغو لشبكات طرق حديثة بسبب سوء البنية التحتية، فالتضاريس والمناخ في حوض الكونغو هي بمثابة عوائق في إنشاء الطرق وبناء السكك الحديدية إضافة إلى المسافات الكبيرة التي يتميز بها هذا البلد الشاسع، وتعتبر وسائل النقل التقليدية المائية الأكثر شيوعاً ويستعملها أكثر من ثلثي السكان.

تحاول الكونغو اليوم تحرير اقتصادها من سياسة البنك الدولي عبر انضمامها للمنظمات الأفريقية الإقليمية والاقتصادية، كما تحاول أن تستفيد من التجارة التفضيلية مع واشنطن في إطار قانون النمو والفرص الأفريقي، والتعاون مع التكتلات الاقتصادية الواعدة مثل (البريكس)، وأخيراً وجدت كينشاسا في التعاون مع برلين فرصة حقيقية لإنعاش اقتصادها الوطني فوضعت خطة خمسية لتطوير قطاع السياحة الوطنية في المنطقة الشرقية التي تزخر بالغابات الاستوائية خاصة أن الكونغو تمتلك 50% من الغابات الاستوائية المطرية في أفريقيا كلها، ونجحت كينشاسا من خلال تطوير الحديقة الوطنية الأشهر في أراضيها «كاهوزوبيقا» التي تعتبر أرضاً خصبة لمختلف أنواع الحيوانات والطيور النادرة والمهددة بالانقراض على مستوى العالم في رفع الاقتصاد الوطني إلى عشرة ملايين دولار.

مع الخطوات الإيجابية التي قامت بها الحكومة الكونغولية لإنعاش اقتصادها إلا أنها تحتاج إلى مزيد من الخطط المستقبلية للتخلص من سياسات نادي باريس وسياسات التكيف الهيكلي، فما زالت كينشاسا منجماً للثروات الطبيعية الواقعة تحت استراتيجية مُربحة لجميع الأطراف ما عدا الأطراف الوطنية وهذا ما كان يحاربه باتريس لومومبا ودفع حياته ثمناً لاجتثاثه.

Email