«الكانال» باكورة النهضة البريطانية

ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل أيام وقفت أتأمل إحدى القنوات المائية الإنجليزية المهمة التي تحولت إلى مزار سياحي. جلست أتأمل السياح الأجانب، وشعرت أن البعض منهم قد لا يعلم أنه يقف أمام حقبة زاهرة في تاريخ بريطانيا. إذ إن تلك القنوات المائية البريطانية (الكانال) قد مهدت للثورة الصناعية الرائدة في العالم.

صحيح أن سرعة القوارب المائية لم تكن تتجاوز سبعة كيلومترات في الساعة، لكن انسيابيتها وبعدها عن الأمواج، فضلاً عن ضيق طرق اليابسة آنذاك جعلها أفضل بديل آمن واقتصادي لنقل المواد الأولية والسلع والبضائع، خصوصاً القابلة للكسر. والأهم من ذلك كله أن القنوات المائية قد خفضت تكلفة نقل الفحم (وقود الثورة الصناعية لاحقاً) إلى أكثر من النصف وهو تقدم هائل في التجارة والصناعة. وبرز ذلك بعد أن بدأت قناة «بريدج واتر» الشهيرة بالعمل في مانشستر عام 1761، حيث قلب الصناعة في شمال البلاد. فبدأت الدولة وحتى الأسر التجارية الثرية بحفر القنوات في تسابق محموم لتنشيط التجارة في قلب هذه الجزيرة العملاقة، وذلك بفضل بعد النظر والرؤية الثاقبة.

وهذا يذكرني بقصة نرددها دوماً في الكويت، ولا نعرف مصدرها، عندما نعلق على قرارات تتطلب بعد نظر، وذلك حينما أمر المغفور له بإذن الله الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، بحفر ميناء دبي لأعماق كبيرة جداً تزيد عن حاجة السفن الصغيرة آنذاك، وقد فعل بعد رصد ميزانية ضخمة، وحينما سئل عن السبب قال ما معناه بأنه يفكر بالمستقبل. وهو بالضبط ما حدث. أشار إلى تلك القصة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، في أحد كتبه وتبع والده أيضاً بحفر قناة دبي المائية عام 2016، مما وفر حركة ملاحية على مدار الساعة وكون واجهة بحرية بطول 6.4 كيلومترات. وهو ما فعله المغفور له بإذن الله الشيخ زايد، حينما جاء بأفضل المستشارين في الصورة الشهيرة التي يشير فيها إلى المجسمات المستقبلية لدولة الإمارات الحديثة. وكذلك صنع أمير الكويت عبد الله السالم حينما فاجأ الجميع في نهاية الخمسينات بالبدء في بناء دولة عصرية ببرلمانها وحرياتها ومسارحها ونقاباتها ومستشفياتها ومدارسها، في منطقة كانت تشق طريقها نحو البحث عن مستلزمات الحياة الأساسية.

في كل دولة هناك حقبة مهمة تتمثل في «مشاريع الرؤية الثاقبة» ترنو بأمل نحو المستقبل، وربما لا يستوعبها الجيل المعاصر، لكنها تعد اللبنة التي تقوم على أساسها مشروعات يشار إليها بالبنان. منها مثلاً قطارات الهايبر لوب الخاطفة التي أتوقع أن تسهم في عمل نقلة نوعية جديدة في التجارة، والنقل، وتطوير أسلوب الحياة.

بعض هذه المشاريع المستقبلية قد تصبح قديمة لاحقاً مثل القنوات المائية التي تستخدم حالياً في الترويج السياحي، لكنها ما زالت تشكل أيقونة تؤكد أن أعجوبة شبكة قطارات مترو الأنفاق البريطانية التي بنيت قبل 150 عاماً في أعماق الأرض قد سبقتها شبكة مائية لم تقل عنها كفاءة بمقتضيات ذلك الزمان، لتضع بريطانيا على خارطة الدول التجارية النشطة. وهو ما حدث وسوف يحدث مع الكثير من مشاريعنا العربية إن كنا نفكر بها برؤية ثاقبة تضع المستقبل في عين الاعتبار.

ـــ كاتب كويتي

Email